العراقي يتهافت على السياسة

العراق 2019/10/24
...

عدنان ابو زيد
واحدة من مظاهر التحول السلوكي، الذي تسْتَشرِفه المعالجات، هو الاهتمام الجمعي بالمنصب السياسي، وتزايد الظفر به في الديمقراطيات الموتورة، وهو ما يؤشر عليه كتاب "لقد تغير العالم (ص 322)"، الذي يتحدث عن قواعد بيانات متشاكلة تفيد بانه حتى في الديمقراطيات الصناعية المتقدمة، فان ثمة رصد لحالة الاهتمام بالسياسة وصراعاتها للوصول الى وضع مثالي في إدارة الحكم، بينما الانتقال الديمقراطي في بلدان العالم النامي، يؤدي إلى الولع بالمنصب السياسي، بدوافع الجاه، والنجومية، كما في ديمقراطيات العراق وبعض الدولة العربية، وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية.
تُوجّه الانتقادات الى السياسيين وممثلي الشعب في العالم الثالث، بأنهم في الغالب، منتوج عملية انتخابية "غير راشدة" تروّعت بها شعوب لا تمتلك القدر الكافي من التربية والتعليم، وتؤثر فيها العوامل الاجتماعية مثل العشائرية، والطائفية، في كيفية تجعل من المنصب، وسيلة للتسلط والإثراء.
من الظواهر الجديرة بالملاحظة، ان العموم يحصر السياسة بأداء الحكومة والأحزاب، وهذا صائب، لكنه ليس الحقيقة كلها، ذلك ان الصوت الذي منحه المواطن للحكومة، هو سياسة أيضا، وهو الذي يتجشم مسؤولية أي قانون يُسنّ .
السبب الآخر الذي يجعل الفرد يلتفت للسياسة، هو ضرورة ان يكون له رأي في ما سيحدث، ولن يكون من العدل التخلي
عن رأي شخص ما، في الديمقراطيات العادلة، لان كل صوت يُحدث فرقا في مستويات النفوذ، ويحول دون نفاذ الشخص غير المناسب الى المكان غير المناسب، لكن هذا ما يحدث في الديمقراطيات ذات العود الليّن، اذ ان المواطن نفسه لا يجعل لصوته قيمة، ويفترض الانتخاب، عملية روتينية، وعبثا.
الرصد في الحالة العراقية، يشير الى ان المنصب السياسي، يصبح الوسيلة الأنجع إلى الطموح والغاية، ما يدفع الى مغادرة الوظائف والمهن، جريا إليه، عبر الانتخابات، أو بواسطة الفرص والعلاقات، في حركية لا تبدو تلقائية.
الطبيب يهجر عيادته، ممارسا السياسة، والمهندس يجهد ويجاهد لأجل منصب سياسي، ورئيس العشيرة، يعزز إمكانياته لاستكمال نفوذه العشائري بمنصب حزبي، أو نيابي.
الإعلامي، الذي يمتلك الوسيلة، لإيصال الصوت، والتعبير عن إرادة الناس، ينصرف عن إبداعه، الى المنصب النيابي او الحكومي. الفنان يترك اشتغالاته، في الابداع، ويتصارع على منصب في النقابة، والبرلمان. الملاكم العراقي، ربما يلاكم داخل الحلبة على أمل الفوز، بكرسي الاتحاد.. على هذا النحو، تجري الأمور ليتحول الأفراد الطامحون لو اتيحت لهم الفرصة، إلى مسؤولين إداريين وسياسيين، ضاربين هواياتهم وانشغالاتهم وإبداعاتهم، عرْض الكرسي المأمول. الشعوب، تحتاج الى الإداريين المهنيين، كل من موقعه، قبل السياسيين والنواب، ولعل هذا أحد أسرار نجاح الغرب، اذ لا وجود للمكتب الفاخر الذي يجلس في وسطه مدير متجبّر، ولا تأثير للمنصب في قيمة صاحبه بين الناس.
في الديمقراطيات الصورية، يحدث العكس، اذ المفترض أن يتحول السياسي الى مستخدم للنخب العلمية والثقافية، مشرّعا القوانين والأنظمة التي تسهّل الأعمال، لكنه بدلا من ذلك، يتحول الى رمز للاستغلال والمقام والامتياز.
متى يصبح السياسي مثل حال المعلم والمدرس والطبيب والمهندس، عندها تنحسر الرغبة في المنصب، وسوف يقود ذلك، أصحاب الاختصاص الى المشاركة العضوية، في الوزارات والمؤسسات، بينما يعبّد السياسي الطريق لهم بالقوانين والتشريعات.
سرّ الاهتمام الزائد لدى المواطن بالسياسة، ناجم عن اعتقاد سائد بان الإنجاز والمجد لن يتم الا حين يصبح المرء سياسيا، بل انتهازيا، وحين يُعتقد أن المنصب امتياز لا مسؤولية، وحين يشعر صاحب الاختصاص انه مُهان، ليلجأ الى السياسة التي أصبحت مهنة من لا مهنة حقيقية له.