أزمة الكرامة !

الصفحة الاخيرة 2019/10/26
...

 جواد علي كسّار
 
ازمة البلد الحالية ليست سياسية وحسب،وإن كان للسياسة حصتها، كما أنها ليست اقتصادية فقط، مع ما للاقتصاد من دور خطير فيها، بل هي قبل ذلك أزمة انسانية، في الشعور والادراك والكرامة . الازمة بهذا الوصف تعمّ الملايين الصامتة، ولا تقتصر على المتظاهرين ؛ هذه الملايين التي تعيش جرحاً عميقاً في كرامتها، ناشئاً أساساً عن احساس كبير بالتهميش والاقصاء، وانها قد خضعت لخديعة كبيرة، بعد أمل عريض بالتغيير، وأحلام بحياة بهيجة راغدة.
كان من نتائج الازمة الانسانية والاحساس المضاعف بالتهميش الذي ضرب حياة الاكثرية الصامتة، هو قطيعة راحت تتسع على نحو موحش بين السلطة والشعب، بل بين النظام والناس، وبين الحاكم والمحكوم، اذ بدأ الحكم عملياً يتحرك بمسار منفصل عن الناس، فللحاكمين ليس فقط مزاياهم المالية والوجاهية والسلطوية، من منافع السلطة ومغانمها، بل أصبحت لهم خصوصيتهم حتى في الاطلالة والملبس واللغة وطريقة الكلام والاداء العام، إلا ما رحم ربي ولا أعمم، لانه دائماً هناك استثناء.
هذه القطيعة والى جوارها الانفصال  العملي بين الحاكم والمحكوم، عمّق الازمة النفسية لدى الملايين الصامتة، وزاد من الاحساس بالتهميش وبالكرامة المهدورة، وقد جاءت أزمات السياسة والاقتصاد والتردي الصحيّ والتعليمي وضعف الخدمات، لكي تشحن ازمة الكرامة، وتغذّيها بوقود لا يكاد ينطفئ، جاءت التظاهرات لكي تعبّر عن وجه واحد من أوجه الازمة.
وإلا فإن التكاسل في العمل، وعدم الوفاء بالخدمة، واللامبالاة في المسؤولية، والتلذذ بمعاناة الآخرين واهانة المراجعين، والاستخفاف بالذوق العام، ومظاهر القسوة المتنامية، والانفلات القيمي، والتمرّد على المرجعيات من كلّ نوع، والسعي لكسر الأطر والمعايير في كلّ شيء ؛ هي وعشرات غيرها مظاهر للتمرد الاجتماعي، وتجليات لازمة الكرامة، والعيش المرير تحت وطأة الازمة، وهذه برأيي أخطر من التظاهرات ، لان التظاهرات حراك سياسي واجتماعي، له دورته المحدّدة، ثمّ لا يلبث أن ينتهي، لتبقى الازمة الاكبر .
البعض يتحدّث عن ارث تأريخي تراكمي لخاصية العنف في الاحتجاجات العراقية، بل هناك من يتحدّث عن تأثيرات للمناخ والجغرافية والمزاج الشخصي كمغذيّات للعنف الذي تنطبع به الشخصية العراقية، وقد تكون هذه كلها عوامل مؤثرة، لكن برأيي ينبغي أن لا نهمل عنصر الكرامة والاحساس المتزايد بالاقصاء والتهميش والخديعة والغبن، اذ تتحوّل بمجموعها الى عامل ثأري، يدفع الى العنف في كلّ الاتجاهات.
في العمق؛ هذه نتيجة طبيعية لاهمال الانسان وتركه لمصيره، يتحمل مسؤوليتها الجميع، الديني والمدني والسياسي والاكاديمي والمعرفي والتربوي والاعلامي والفنان والمثقف، ومن ثمّ فان الحل يتمثل باستنفار جميع الطاقات من دون استثناء، عسى ان يكون في ذلك حبل نجاة، ولو بعد حين !