في المشهد الكوميدي العراقي

الصفحة الاخيرة 2019/10/29
...

 رضا المحمداوي

شهدتْ السنوات الأخيرة توجهّاً فنياً كاسحاً في إنتاج ما تُوصفُ لدينا عادةً بأنها (أعمال كوميدية) كرست وجودها وحضورها الدائم على أغلب شاشات القنوات الفضائية الرئيسة عندنا في العراق، مشكّلة بمجملها مَلمَحاً فنيَّاً بارزاً في المشهد الدرامي العراقي بكل أزماتهِ وعقباتهِ الانتاجية ومشكلاته
 المزمنة.
لكنَّ هذه الظاهرة الكوميدية لم ترسّخْ أو تبلورْ اتجاهاً فنياً واضحاً ومحدداً، كما أنها لم تفرزْ أسماءً أو إتجاهاتٍ أو تجارب أو مدارس كوميدية، لها مميزاتها وأساليبها، مثلما أفرزتهُ على سبيل المثال الاعمال الكوميدية في السينما، والأعمال التلفزيونية المصرية، باسماء مثل إسماعيل ياسين وعبد المنعم مدبولي وعبد السلام النابلسي ومحمد عوض وعادل إمام وهاني رمزي ومحمد هنيدي وغيرهم، حيث عَمَلَ نظام النجوم الذي يشتغلون داخل آلياتهِ واشتراطاتهِ على الترويج لهم وضمان النجاح الجماهيري والتجاري لاعمالهم على مدى سنوات طويلة من عملهم الفني.  
عراقياً برزَ لدينا الثنائي سليم البصري وحمودي الحارثي، في "تحت موس الحلاق" الذي انتج مطلع الستينيات، وما زال حاضراً في ذاكرة المشاهدين، لكن استثمار هذا الثنائي لم يُكتبْ لهُ النجاح ولم يوفقْ فنياً عند انتاج الجزء الثاني منه في الثمانينيات، وبقيتْ هذه المحاولات الضعيفة حتى عندما تم زجَّ الثنائي المعروف جماهيرياً بـ "حجي راضي وعبوسي" في الفيلم السينمائي الكوميدي "العربة والحصان".
وفي الثمانينيات أيضاً برز قاسم الملاّك، بشخصية "رجب" في مسلسل "الذئب وعيون المدينة" وفي جزئهِ الثاني "النسر وعيون المدينة" رسَّخ اسمَهُ بوصفهِ مُمَثّلاً كوميديّاً ناجحاً، وفيما بعد تم استثمار هذا النجاح الكوميدي للفنان الملاّك، في عدة أفلام سينمائية كوميدية قام ببطولتها في وقتٍ كانتْ قد نشطتْ فيه السينما العراقية بإنتاج هذا النمط  من الافلام، وفيما بعد عَوَّلَ الفنان قاسم الملاك على هذا الرصيد الجماهيري من خلال تكريس نفسه فناناً كوميدياً في مسلسلات تفرد ببطولتها.
وفي ذات الإطار يمكنُ الإشارة الى راسم الجميلي، وتجربته وكذلك الحال مع محمد حسين عبد الرحيم، الذي ما زال متواصلاً في عطائه، وبرز إياد راضي، مؤخراً كممثل كوميدي، أثبتَ حضورَهُ الجماهيري، في أعمال كوميدية اتَّخذتْ نمطاً درامياً ثابتاً، أصبح فيما بعد شائعاً في بعض القنوات
 الفضائية. 
لكن مقابل ذلك: - هل استطعنا أن نؤسس لمدرسةٍ كوميديةٍ جديدةٍ في الدراما العراقية، ذات ملامح ومواصفات فنية
 ناجحة؟
- وهل نستطيعُ أنْ نُحدّد أو نرسم خطوط تلك الكوميديا وأبرز من يُجسّدُها على الشاشة؟ وهل تمكَّنا من تأسيس نمطٍ كوميدي جديدٍ يمكنُ الإشارة إليهِ على نحوٍ واضحٍ ومُحدّد؟
يعتمد العمل الكوميدي في الغالب الأعم حتى أثناء عملية كتابة النص من قبل المؤلف على الممثل بالدرجة الأساس وما يُقدُّمهُ من اجتهاد شخصي وجهد فني وما يضيفُهُ من عندياتهِ وخاصةً في الحوار وطريقة إلقائهِ والتلاعب بالكلمات وأساليب التعبير وإبتكار اللازمة الفكاهية المتكررة، فهل يمكن الإشارة الى اسم مُمثلٍ مُمَيَّز يُجسَّدُ مدرسة عراقية في الكوميديا، وذكر أعمال فنية مُحَددَّة تمثّل وتُجسُّدُ هذا النمط الفني
 المُهِّم؟
لا بُدَّ من التأكيد على العمل الكوميدي، بما يشتملُ عليهِ من فكاهةٍ وسخريةٍ وحواراتٍ هزليةٍ خفيفةٍ، وشيوع طابع التهكم وغَلَبَة الانتقادات العامة بجميع نواحيها وأشكالها.. على العمل الفني أن يتضمن قيمةً فكريةً يُعَّبرُ فيها المؤلف عن وجهة نظر موضوعية عامة، حيث يكون بمثابة خبير الحياة الغائص في أعماقها، والفاضح للكثير من سلبياتها وظواهرها المُدانة.
وأعتقدُ أنَّ الكثير من ظواهر المجتمع العراقي يمكنُ أنْ تُصبحَ مادةً اساسية لاعمالٍ كوميدية، ولكن بشرط إيصال الرسالة الاجتماعية  والاخلاقية وقيم التنوير والتثقيف والتوعية والارشاد.
وبرأيي المتواضع ان العمل الدرامي الكوميدي بفكاهتهِ وسخريتهِ وهزليتهِ يمكن ان يكون الطريق السهل والقصير للوصول الى عقل وقلب المتلقي العراقي.
ويتوجَّبُ، الابتعاد عن العشوائية في اختيار الموضوعات، والنأي بالعمل الفني عن حشو المَشاهَد التمثيلية والمواقف والحوار ذي الكلام الفارغ والبذيء المنقول من "كلام الشارع" الشائع وألفاظهِ وتعبيراتهِ الدارجة، وصيغ المخاطبة وما يتداولهُ عامة الناس في قاع الحياة اليومية، فعلى المؤلف أولاً.. كاتب الفكرة ونصها الدرامي وصاحب الكلمة العليا في العمل الفني الكوميدي، ومن بعدهِ المخرج ومسؤوليته الكبيرة إزاء النص الذي بين
 يديه. 
وأخيراً الممثل بوعيهِ وخبرتهِ الفنية.. على هذا الثلاثي أن يقوم بعملية تهذيب وتشذيب لما يَعلَقُ في النص من شوائب، ثم الانتقاء وتحديد الهدف وتصحيح الاخطاء الشائعة وتعرية الجوانب السلبية وإدانتها والكشف عن آليات تكوِّنها داخل بنية المجتمع، ومن هنا تتأتّى أهمية الرسالة الاجتماعية للفن الكوميدي والقيمة الاخلاقية الكامنة فيها وما تحملُهُ من مضامين تثقيفية وتنويرية عُليا في إطار عام من الفكاهة والهزل والسخرية بما تنطوي عليه هذه المواصفات من تسلية
 وترفيه.