يوم أنهيت الدراسة الإعداديَّة لم أستطع مواصلة دراستي الجامعيَّة, فقد كان وضع (العائلة) أحوج الى الدينار منه الى العِلمِ, وهكذا رحتُ أبحثُ عن وظيفة من دون النظر الى طبيعتها ما دامت تدفعُ لي راتباً شهرياً, وكان لي ما أردت, ووجد الراتب التقاعدي المخجل لوالدي ما يسنده بقوة, وتهيأ لأسرتنا التعرف على طعم اللحوم والفواكه لأول مرَّة, ولأول مرَّة تلبس الأسرة ما يروقُ لها ويعجبها, لا ما تفرضه الضرورة عليها.. غير أنَّ الحنين الى إكمال الدراسة ورغبة الذهاب الى الجامعة وحكاية (النادي والبنات) التي كنت أسمعها من زملائي لم تغادر مخيلتي, ولكنَّ رغبتي الحقيقيَّة لمواصلة الدراسة هذه المرَّة, لم يكن هدفها طلب العِلم من المهد الى اللحد, بل هي رغبة موظف بسيط يبحثُ عن شهادة تكون بمنزلة ديكور لوضعه الاجتماعي والوظيفي..
تحت هذا النازع التحقت بالجامعة المستنصريَّة/ كلية الآداب/ قسم اللغة العربية.. وكان واضحاً منذ الشهر الأول على بداية الدوام, أنَّ مادة (النحو) هي العمود الفقري لهذا القسم, وأنَّ هناك موادَّ أخرى, وثيقة الصلة بها وقد لا تقل أهمية عنها كاللغة والصرف والإملاء والبلاغة والآداب, في حين هناك مواد لم نجد مبرراً أو مسوغاً لدراستها ضمن عام دراسي واحد, أو مرحلة واحدة فقط, بحيث لا نكاد نتعرف عليها معرفة هامشيَّة عابرة حتى تنقطع الصلة بها كالفلسفة واللغة الانكليزيَّة واللغة الفارسيَّة والفقه الديني.
وإذن فهو النحو الذي يرافقنا ويتعبنا طوال سنوات الجامعة, وأشهد بأنني وزملائي أمضينا ثلاث مراحل دراسيَّة لم نتعلم فيها من النحو شيئاً, وحقدنا على تلك القصيدة الطويلة التي تفتقرُ الى العاطفة واللغة الشعريَّة, وحقدنا أكثر على ابن مالك وألفيته وشواهدها المقرفة وعلى شرح "ابن عقيل" وتعليقاته, وكرهنا ما في الألفية من شواذ غريبة وردت على لسان رجل ينتمي الى فخذ صغير من أفخاذ بني مالك أو بني لام, أو فخذ صغير من أفخاذ الحلابسة أو البو نمر, مع ذلك لم (يرسب) أحدٌ منا في هذه المادة, فقد كنا نحفظها ونؤديها في الامتحان على أفضل وجه, إما اعتماداً على حافظتنا الشبابيَّة أو عبر التعاون في ما بيننا نحن الطلبة (البعض يسمي التعاون غشاً), أما خارج القاعة الامتحانيَّة, فإن أفضلنا علماً لا يستطيع كتابة أربعة أسطر من دون أنْ يكسرَ رأس الفاعل أو يرفع رأس المفعول!
في المرحلة الرابعة تعهَّدَ مادة النحو أستاذٌ جديدٌ هو الدكتور هادي نهر, وعلى يده تغير كل شيء, فالرجل لا يسمح لأحدٍ منا أنْ يجلسَ من غير مشاركة في نقاش أو تعقيب أو سؤال أو اجتهاد, وقد أزعجنا هذا الوضع الطارئ أول الأمر, إلا أننا لم نلبث أنْ اعتدنا عليه, وصرنا نبحثُ عن مراجع أخرى غير الألفيَّة, وتعلمنا في 3 أشهر ما لم نتعلمه في 3 سنوات, وصار الخطأ النحوي يخدش آذاننا إذا ما سمعناه من المذيع, أما المذيعة فلم نكن نصغي الى كلامها بل ننظر الى مفاتنها, كما كان الرجل لا يسمح لأحدٍ منا بدخول القاعة بعده, ولا مغادرتها إلا عند الضرورة, وقد جادله أحد الطلبة بدعوى أنَّ الطالب الجامعي حرٌ مثل عضو البرلمان, يمتلك حق الحضور والمغادرة والغياب متى ما أراد, فردّ عليه الدكتور منفعلاً: لا أريد طالباً يأتي نهاية السنة ليسأل عن شهادته مثل عضو البرلمان الذي يحضر نهاية الشهر ليقبض راتبه, والحقوق التي نتحدث عنها لا تعني الضحك على أهلك والأساتذة والكلية والشعب, لأنها قبل أي شيء آخر احترام هذه الأطراف التي أتت بك الى حرم الجامعة أو قبة البرلمان, وأنْ تكون أكثر من غيرك التزاماً بالحضور والعطاء وإلا فإنَّ مكانك البيت أو الشارع!!