جواد علي كسّار
كنت أتابع أحدهم حين قال بصراحة ووضوح: أكاديمياً أنا ماجستير، وفعلياً موظف في الدولة، وراتبي خير من الله، ومع ذلك خرجت للتظاهر تعبيراً عن موقف.
مضمون هذا الموقف تكرر كثيراً مع مجموعة غير قليلة، أجهرت أن دوافعها في الاحتجاج ليست خدمية أو مطلبية، بقدر ما ترتبط بالوطن والوطنية والمواطنة، وأعتقد أن هذا بشير خير يطلّ على الساحة العراقية، بحثاً عن الوطنية العراقية كمفهوم جامع.
ضعف أو غياب أو ضبابية مفهوم الوطنية العراقية، واقع تحدّث عنه الجميع خلال العقود الأخيرة، ارتفعت وتيرته بعد التغيير، وقد راح يعبّر عن نفسه في مساحة منظورة من الاحتجاجات الحاضرة، ما يؤشر بالفعل إلى وجود أزمة حقيقية على هذا الصعيد، تحتاج إلى كلام صريح وواضح.
في لغة التحليل الاجتماعي يذهب البعض إلى أن واحداً من مهدّدات الوطنية العراقية، هو الإنجرار المبالغ فيه إلى مفهوم الأمميات، والانغماس به على حساب الوطنية العراقية. يقصد هؤلاء بالأمميات؛ الأممية الماركسية واليسارية العالمية، والأممية العربية والعالمية الإسلامية، إذ ان لكل واحد من هذه الاتجاهات الكبرى، تصوراته الأيديولوجية التي تمتد به إلى ما وراء الحدود المحلية، نزوعاً صوب غاياتها العالمية، التي تصرفها عن الاهتمام بالوطن والمواطن والمواطنة.
الطريف الذي تلحظه هذه التحليلات الاجتماعية في الهوية والانتماء والوطنية، هي تلك المفارقات الكبيرة في تجارب بعض أنصار الأمميات، كمصر وإيران مثلاً. فمصر كمثال تصدّر مفهوم الأممية العربية، وهي من أشدّ الشعوب وطنية ومحلية، بحيث لا يتقدم أي شيء عربي أو غير عربي، على ستراتيجية «مصر أولاً». والإيرانيون يصدرون الأممية الإسلامية، وهم بين الشعوب المسلمة، من أشدّ الشعوب وطنية ومحلية، وبناء إيران والدفاع عنها، مقدّم عملياً على أي شيء آخر.
يرى الكثيرون أن الوقت قد حان للأمميين في بلدنا وعلى رأسهم الإسلاميون، لإعادة النظر بمفهوم الهوية الوطنية، خاصة ان أمامهم نماذج مُراجعة في التجربة التونسية والتركية والمصرية والإيرانية نفسها، تسمح بتسويات تأريخية على هذا الصعيد. صحيح ان الوطنية هي مفهوم انتزاعي، ولكن اضطرابها في العراق لا يعود إلى محض أسباب فكرية وأيديولوجية، بل للمشكلة جذورها في وباءات العسكرة والاحتراب والحروب المتراكمة والتخلف الاقتصادي والتردّي المعيشي؛ فهذه وغيرها من أكبر عناصر الصدّ، ضدّ تكوين الهوية الوطنية الجامعة.
يُخطئ من يظن أن الوطنية العراقية تصطدم مع متبنياته الإسلامية والعروبية واليسارية، فتلك تبقى على مستوى الإدراك والمتبنيات الفكرية، وهذه تبرز على صعيد الدولة والوطن والمواطنة، وما ثمة مشكلة بين الاثنين، إذا تبيّنا الحدود بوضوح، إذ ما من إنسان على وجه الأرض إلا وهو يعيش انتماءً محلياً إلى وطنه، وآخر إلى إنسانيته يشترك فيه مع اعمّار هذه الأرض.