علي حمود الحسن
كتبت الأسبوع الماضي عمودا عن رائعة المخرج الأميركي ستيفن سودربرغ ، بعنوان " لا مكان للمساكين في المغسلة"، ووجدت في نفسي رغبة عارمة لان ازيد على ما كتبت لأسباب منها: ان الفيلم الذي صوره ومنتجه سودربيرغ وانتجته شركة انتفلكيس في العام 2019 يتحدث عن تبييض الأموال وتهريبها عبر شركات وهمية معولمة يديرها محامون ورجال أعمال فاسدون ويغطي نشاطها كوكبنا الأرضي على اتساعه، ويتزامن مع انتفاضة العراقيين ضد الفساد والفاسدين، بعد ان تبوأ العراق مرتبة متقدمة ضمن قائمة البلدان التي تغسل الأموال وتهربها، والسبب الثاني يعود الى رغبتي لان افصل بعض الملاحظات التي سجلتها عن الفيلم، او تلك التي مررت بها عابرا، اذ أعجبتني الطريقة التي تعامل معها المخرج مع مادة الفيلم، وهي كم هائل من الوثائق والأرقام التي تضمنها كتاب "عالم السرية داخل وثائق بنما" للكاتب والصحفي الاستقصائي جيك بيرستين، اذ ارتكز في سرده البصري ومتنه الحكائي المرح على موضوعة "التغريب" بمفهومية بريخت الذي يعني في ما يعنيه كسر تماهي المتلقي (لعبة السينما الاثيرة) من دون ان تفقد الحبكة قوة تواترها، فعمد الى تجزئة الاحداث الى قصص كل واحدة بعنوان دال، فكسر بذلك مللا وترهلا غالبا ما يصاحب هذا النوع من المواضيع، ليس هذا حسب، إنما أسهم المونتاج والحوار المرح بحيوية تتابع الاحداث، من خلال أداء ثلاثة نجوم كبار تحملوا أعباء الحكي الفيلمي، هم: ميريل ستريب (أدت دور الارملة العجوز وسكرتيرة محامي شركة موساك فونسيكا) والممثل الانكليزي غاتري اولدمان ("الساعة الاسوأ"، و" دراكولا" ) الذي جسد شخصية المحامي موساك بأداء ممتاز وفكه، وهذا بالضبط ما حصل مع الممثل الاسباني انطونيو باندرياس الذي ادى دور رامون فونسيكا شريك يورغن موساك في إدارة الشركة، هذان الممثلان قدما اداءً آسرا لشخصيتي المحاميين الرهيبين، اللذين يديران شركة تبيض ملايين الدولارات المعولمة من خلال شركات وهمية، فضلا عن قيامهما بوظيفة الراوي العليم والمشارك، وكما هو متوقع قدمت ستريب اداءً مثيرا بحيويتها المعتادة وحضورها الطاغي، لا سيما تشخيصها لدور سكرتيرة موساك، اذ غيرت شكلها وجسمها بالكامل، الى حد ان المشاهد لا يستطيع التعرف عليها قبل ان تعلن عن حقيقتها، وتزيل الكتل اللدنة من صدرها وفخذها، وكم كانت مقنعة وهي تتلبس شخصية الموظفة المتفانية والمغرمة بشخصية مديرها الملهمة ومشاريعه الجهنمية، فهي تشاهد وتسهم في كسر قلوب المساكين وبدم بارد، لكنها وفي قمة تماهيها مع الشخصية تنظر الى الكاميرا وتتخلص من صدرها ومؤخرتها الصناعيتين، ثم تأتزر بشالها وتلقي به على كتفها وترفع يدها كما تمثال الحرية، وتقول ان كل ما شهدناه من مآس سببه اميركا .
وبهذا الفيلم دشن سودربيرغ فلما آخر إضافة الى سلسلة اعماله المستقلة، التي يحرص على اخراجها، على الرغم من انهماكه في عمله الهوليوودي، فيغرق في اخراج افلام استهلاكية من دون ان يفقد حماسته لهدف السينما النبيل.