جواد علي كسّار
على مدار ثلاثة عقود وأكثر قليلاً كان النظام السوري يفرض هيمنته الكاملة على الوضع في لبنان، ففي المدّة بين منتصف السبعينيات من القرن الماضي تأريخ بداية الحرب الأهلية في لبنان، حتى عام 2005، كان الجيش السوري ومن ورائه مخابرات دمشق، هي التي تحرّك خيوط اللعبة السياسية في بيروت، بتأثير مُباشر على القصر والبرلمان والقوى السياسية والصحافة والإعلام، وعلى الاقتصاد، بل حتى على الثقافة والذوق العام، ولم يكن أحد يجرؤ على تحدّي الإرادة السورية السياسية والعسكرية والأمنية في لبنان.
في تلك البرهة كان بمقدور جندي في القوات السورية أن يفرض املاءاته على الناس، ويكسر إرادتهم وكرامتهم. أما ضباط الجيش والمخابرات فقد كانوا يمثلون أباطرة الثروة والمال والسياسة، يتحكمون بالمواقف، ويمارسون الاغتيال والقتل والتصفيات كما يحلو لهم، يقربون من يتزلّف إليهم بالتملّق والتبعية والذيلية، ومن يمتثل لرغباتهم وعبثهم داخل الساحة اللبنانية، ويُبعدون بالتهميش والنفي والتصفية، من يعترض على سياساتهم، وتدخلهم الشائن في تفصيلات لبنان وحياة اللبنانيين.
هذه حقيقة مرّة يعرفها الجميع، ولا تزال ذاكرة اللبنانيين تحمل الكثير من فجائع تلك المرحلة، وهي محض حالة سقتها كمثال. على أن مسألة التدخلات بشؤون الآخرين لا تقتصر في منطقتنا والعالم، على هذا المثال وحده، بل هي كثيرة لاسيما في الرقعة الموسومة ببلدان العالم الثالث.
لكن الملاحظ هو انهيار هذه الحالة على حافة نقطة حادّة، تمثلت بالنسبة إلى لبنان باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005، فقد تحوّل الاغتيال إلى موقف صفري ليس للتدخل السوري في لبنان، بل لوجود القوات السورية نفسها، وشبكة مخابراتها ومصالحها الاقتصادية وكلّ ما يمت إلى النظام السوري بصلة، ثمّ ما لبث أن انقلب السحر على الساحر، ودفعت دمشق ثمن وجودها المتمدّد في لبنان.
إيران مثلاً كانت غارقة بالتبعية إلى الأمريكان خاصة وإلى الغرب عامة، بالسياسة والاقتصاد والثقافة والسلوك العام، حتى جاءت لحظة الثورة الإيرانية عام 1979م التي صفّرت تلك التبعيات، هكذا بالنسبة إلى بقية البلدان والأمثلة.
لقد هبطت على العراق مع انزياح النظام الساقط عام 2003، لحظة تأريخية لقطع دابر التبعيات، لكن الغريب المدهش، ان العراق تحوّل إلى منخفض لتدخلات الإقليم العربي والإسلامي دون استثناء أحد، لكن كلاً بحسبه وبحجم تأثيره، مضافاً إلى التدخلات الدولية والبعيدة، وما ينبغي أن نعترف به للقضاء على هذه التدخلات، هو وجودها وتأثيرها في الواقع السياسي والاجتماعي العراقي.
ما أريد أن أقوله بدقةٍ عالية لكن بوضوح، ان المنعطفات المصيرية، كالتي يعيشها بلدنا منذ الأول من تشرين الأول حتى الآن، تمثل فرصاً ومزالق في آنٍ واحد؛ فرص إذا استثمرناها، ومزالق تقود إلى المزيد من التداعيات المدمّرة، والأزمات المتوالية التي يتولد بعضها عن بعض، إذا فرطنا بها.
الفرصة الآن مفتوحة على مصراعيها لكي يتحوّل ضغط الشارع في سياستنا الخارجية، إلى لحظة حاسمة تُصفّر بها جميع التبعيات، بكل أسمائها ومسمياتها وشعاراتها وصورها ورموزها وبضائعها وأيديولوجياتها ومواريثها وأفكارها، لصالح العراق والعراق وحده.
هل يعني ذلك الدخول في خصومة مع العرب والعجم والشرق والغرب والعالم برمته؟ أبداً ومطلقاً، بل يعني استعمال ورقة الشارع، لنفي التبعيات وإعادة تأسيس العلاقة مع الجميع دون استثناء، على أساس المصلحة ومنطقها؛ فالمصلحة العراقية هي من يُحدّد بوصلة العلاقات وحجمها مع الجميع، ولا شيء غير مصلحة البلد وأهله، والسلام.