د. باسم محمد حبيب
تعدُّ السينما من الروافد المهمَّة للثقافة الوطنيَّة لأي بلد، ليس ما يتعلق منها بصناعة الأفلام بمختلف أنواعها وحسب، بل وبدور السينما التي تعرض الأفلام المستوردة من الخارج، فضلاً عن تلك المنتجة محلياً والتي تشكل ركناً مهماً من أركان الواقع السينمائي، إذ يمتد تاريخ السينما العراقيَّة إلى ما يزيد على القرن انطلاقاً من عرض أول فيلم سينمائي في بغداد عام 1909، وهذا التاريخ يعدُّ من التواريخ المبكرة مقارنة بدولٍ كثيرة على المستويين الإقليمي والعالمي، لكنْ للأسف لم ينجح العراق في مواكبة هذه الولادة المبكرة في صناعة سينما عراقيَّة منذ وقت مبكر مقارنة بدول كمصر والهند مقاربة له في مسار التطور.
إذ لم يتم التحول نحو صناعة السينما في العراق، إلا في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، أي بعد حدود ربع قرن من ظهورها في مصر، ولم يكن هذا السبب الوحيد في تأخر السينما العراقيَّة، إنما بسبب افتقارها للكفاءات والتقنيات الحديثة، وبقيت المبادرات الفرديَّة هي العامل الوحيد في دوامها من دون اهتمام حكومي ومؤسساتي يرتقي بها إلى ما هو أفضل، لذا ليس غريباً أنْ تبقى السينما العراقيَّة تراوح في مكانها ويبقى عدد الأفلام المنتجة في أدنى الحدود.
بعد حصول التغيير أصبح هناك أملٌ في تطور سينمائي يخرج العراق من خانة الدول المستوردة للأفلام إلى خانة الدول المصدرة، في حال اتبع المعنيون خطة طموحة لهذا الغرض، إلا أنَّ الأمور لم تسر هكذا، إذ واجهت السينما العراقيَّة تحديات عدة بسبب ظروف العراق التي تلت ذلك الحدث، والآن تعيشُ السينما العراقيَّة ظروفاً صعبة بتوقف أو تراجع الدعم الحكومي، وعدم وجود كوادر فاعلة للارتقاء بها وإخراجها من نفقها المظلمK وفيما نرى هذا واضحاً في غياب شبه تام لصناعة الفيلم العراقي، ونجد أيضاً اختفاءً تراجيدياً للكثير من دور السينما سواء في بغداد أو المحافظات، وربما بقي منها عددٌ قليل، وهذا القليل لا يتناسب مع مكانة العراق السينمائيَّة، لا سيما في العاصمة بغداد ومحافظات قليلة أخرى، وهو أمرٌ يستدعي منا وقفة جادة لنكون عند مستوى الحال، ولا بدَّ من البحث عن معالجات تخرج السينما العراقيَّة من حالة التراجع التي تعيشهاً إلى آفاق النمو والتطور، ومن أجل ذلك وكخطوة أولى لا بدَّ من إعادة الحياة إلى دائرة السينما والمسرح، التي تشرف على القطاع السينمائي في العراق ومنحها كل الاهتمام والدعم المطلوبين.
كما يجب إعادة بناء وتأهيل دور السينما القديمة وافتتاح دورٍ جديدة، والسماح للقطاع الخاص في خوض هذا المضمار، أما صناعة السينما فيجب أنْ تلقى الاهتمام الأكبر من المعنيين بهذا الشأن، لكي يكون للعراق حضورٌ عالميُّ وإقليميٌّ في هذا المجال الثقافي المهم.
إنَّ من الضروري أنْ يدرك المعنيون بالثقافة العراقيَّة، ومنهم المهتمون بالسينما بشكل خاص، إنَّ أهمية السينما تتجاوز الجانب المادي إلى ما هو معنوي وحضاري وثقافي، لأنَّ بإمكان هذا الفن، نقل الكثير من التجارب العالمية إلى شبابنا، فضلاً عن تقديم صورة حيَّة عن الحياة في المجتمعات الأخرى، وما حصل فيها من تطورات حضاريَّة واجتماعيَّة، غيرت من قالبها الحضاري ومسارها التنموي لتغدو مختلفة كثيراً عما كانت عليه. فالدول التي تطورت السينما فيها تطوراً كبيراً، ليس مثل الدول الأخرى الأقل تطوراً في هذا الضرب من الفن، فالهند التي تعدُّ من الدول الأكثر إنتاجاً للأفلام، أكثر تطوراً وإنتاجاً من الصين في مجالات عدة، على الرغم من حداثة تشكيل كيان الهند السياسي مقارنة بالصين ذات الاستقلال الطويل والحكم الإمبراطوري العتيد، وهذا ما ينطبق على مصر أشهر الدول العربية والإسلامية في صناعة السينما، فهي بالتأكيد أكثر نمواً وتطوراً من سواها في المنظومتين العربيَّة والإسلاميَّة.
على الضد من ذلك في الدول التي بقيت بعيدة عن هذا الفن، إذ نجدها أقل تطوراً في مجالات كثيرة أهمها المجالات الثقافية والعلميَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وليس أدلَّ على ذلك من دول الخليج، التي بقي تعاطيها مع السينما في أدنى حدوده، إذ لا نجد فيها ما في غيرها من تطورات ثقافيَّة واجتماعيَّة، تماماً كحال العراق في عهودٍ عدة، الأمر الذي يؤكد أهمية السينما كعاملٍ من عوامل تطوير المجتمعات وحافزٍ لازدهارها ونموها في مختلف المجالات.
وهذا ما يتطلب بذل جهودٍ كبيرة للارتقاء بهذا الفن الجميل، ليكون أحد روافد عمليَّة التطور التي يشهدها البلد إذ لا يمكن تحقيق النجاح من دون قوانين داعمة ومنظمة لهذا الفن، وبلا ميزانيَّة يتم صرفها على بناء المؤسسات المعنيَّة، بإدارة هذا الأمر وتطوير البنية السينمائيَّة والإنتاج السينمائي، ومن دون خبرات يتم اللجوء إليها لمواكبة التطورات العالميَّة في هذا الفن، على أنْ يتمَّ ذلك في إطار خططٍ يتم وضعها من الجهات الخبيرة للارتقاء بهذا المسار ووضع سقوف زمنيَّة لملاحظة التغييرات التي يشهدها هذا المسار وما يتحقق فيه من نجاحات وتطورات.
لذا ندعو الجهات المعنيَّة، إلى الاهتمام بهذا الفن صناعة ونشراً، والقيام بحملة وطنيَّة لبناء وتأهيل دور السينما القديمة، وبناء دور جديدة لها، فهذه هي أهم خطوة يجب اتخاذها في هذا المجال.