معتقدات عراقيَّة

الصفحة الاخيرة 2019/11/15
...

حسن العاني 
 
في وقتٍ مبكرٍ من حياة البشريَّة, بحثت الناس عن وسائل تحميها من الشرور والأمراض وكوارث الطبيعة, وتوفر لها الأمن والسلام والعافية والرزق, فابتكرت العديد من المعتقدات الشعبية القائمة على الجهل والخرافة, ولكن الغريب ان هذه المعتقدات ظلت تتناسل وتتكاثر, على الرغم من دخول الانسان عصر العلم, وعلى الرغم من بلوغه سطح القمر, واختراعه الروبوت والانترنت والسكالوب وبابا غنوج, بل ما زالت القناعة بتأثيرها سائدة حتى في الألفية الثالثة التي ابتكرت الفيسبوك والربيع العربي, وليس أدل على ذلك من بقاء (أم سبع عيون) شامخة على واجهات المنازل طردا للحسد والى سنوات قريبة مضت، كان نهر دجلة يستقبل وقت الغروب حشود النسوة البغداديات وهن يوقدن الشموع فوق (كرب النخيل) ثم يدفعن به الى الماء حيث يتشكل مشهد من امتع المشاهد، لأنَّ رؤية تلك الاضواء الراقصة وهي تتماوج مع تموج الماء يرسم لوحة رومانسية مذهلة، وكان ذلك يدعى (شموع الخضر)، وهو نوع من أنواع النذور التي ما انزل الله بها من سلطان!!
وأنا استعرض هذا الموضوع, تذكرت معتقداً شعبياً تلمست صورته الأولى في طفولتي التي تعود الى أوائل الخمسينيات من القرن الماضي, فقد كانت والدتي رحمها الله تحرص حرصاً شديداً على أن (تطش) طاسة ماء وراء والدي كلما غادر البيت في طريقه الى سفر (خارج بغداد), غالباً ما يضطره الى البقاء بضعة أيام, بحكم عمله مفتشاً في وزارة المالية, وعليه التنقل بين دوائر الدولة من الموصل الى البصرة, ولم تكن تفعل ذلك إلا في حالات السفر فقط لقناعتها كما فهمت لاحقاً, إنَّ الماء مقدس ورمز الخير والتفاؤل, وسفح كمية منه وراء المسافر تسهل عليه مهمته, وتفتح أبواب الرزق أمامه, وتجنبه المكروه, وتضمن عودته الى "عائلته" سالماً معافى, وكلما كانت الكمية اكبر تحقق المراد, ولذلك كانت (تطش) في كل مرة ثلاث طاسات كبيرة, لأن المياه على ايامنا تلك كانت متوفرة اكثر من حاجتنا, ولم نكن قد سمعنا بشيء اسمه ترشيد الاستهلاك!
الحقيقة لم اقتنع منذ طفولتي بهذا المعتقد, على الرغم من ان نسوان الطرف جميعهن كن يفعلن الشيء نفسه, بل حتى الرجال كانوا يؤمنون به, وقد أثبتت الايام انني على حق, فقد اكتشفت والدتي بعد فوات الأوان ان الماء لم يحقق مرادها, حيث ظهر ان والدي قد تزوج عليها, وان سفراته المتواصلة الى خارج بغداد لم تكن لأغراض تفتيشية وانما لأغراض زوجية!
الغريب ان هذه الظاهرة المائية, مع ثبوت بطلانها, وعدم وجود اي دليل مادي او روحي او شرعي يؤكد صحتها, الا ان الناس لم تتخلَ عنها, والادهى والأمر, ان الايمان بها آخذ بالانتشار والازدياد مع كل ما يعانيه البلد من شح المياه الصالحة للشرب, ويبدو هذا واضحاً على وجه الخصوص بعد الاحتلال, فمنذ 9/4/2003 صعودا الى يومنا المبارك هذا, أصبحت المرأة تطش الماء ليس عند السفر فقط, بل كذلك عندما يذهب زوجها الى الوظيفة, او ولدها الى الكلية او ابنتها الى المدرسة, ولم تعد تستعمل الطاسة بل (السطل), وقد لاحظت شخصياً ان زوجتي تخلت حتى عن السطل, ولجأت الى صنبور الماء تتركه مفتوحاً ورائي الى حين عودتي سالماً, بحيث يفيض الشارع وتغرق الحفر, وهذا التبذير يزعجني كثيراً, ولكن ما يزعجني اكثر هو ان الماء يتولى حمايتي بدلا من الحكومة!!