{فوتوغرافيا} .. صورة الهندي بلا رتوش

الصفحة الاخيرة 2019/11/19
...

علي حمود الحسن
لا أحد يُضاهي الهند في انتاج الأفلام، فهي الأولى بعد نيجيريا وهوليوود، إذ يبلغ عددها 2000 فيلما سنويا، ومعظم هذه الأفلام تسوق محليا، فهذه الصناعة العريقة لها مكانة أيقونيّة في نفوس جمهور يجد فيها قيمة تعويضيّة عن واقع بائس، نحو آمال عريضة وإن كانت وهما، وهي حاجة اجتماعية نفسية وليست ترفاً، فعلى مدار قرن من الزمان وازيد، كرّس صناعُها تقاليد وأساليب تتفرّد بها، منها: الميلودراما، والأغاني والرقص والأزياء الملوّنة بشكل صارخ، فضلا عن مواقع تصوير فخمة ونجوم أقرب الى القداسة (شامي كابور، اميتاب باتشان، ايشواريا راي، شيلبا شيتي، نرجس، ومينا كومارين، ديلاب كومار، وراجي كوبار)، وقبل ذلك مواضيع وقصص يختلط فيها الواقع بالخرافة والاساطير.
 وجدت الطبقات الهنديّة المسحوقة في السينما “مورفين” تنسى فيه عبء أيامها البائسة، وهذا النوع من الأفلام يشكل النسبة الأكبر من الإنتاج، لكنّه لا يخفي تيارا من الأفلام المستقلة، التي تحفر عميقا في بنية المجتمع الهندي وأزماته المستديمة، فكسرت محددات السينما التقليدية وابتكرت أساليب سردية لا تنتمي اليها، يمكن إجمالها ببساطة المضمون والتصاقه بهموم الفرد الهندي والتعبير عنه بإطار فني لا يقل عنه بساطة بعيداً عن الميلودراما ولازمتها الغنائيّة الطويلة والنجوم الخارقين والمتع الاستهلاكية (الديكورات والمجوهرات والازياء والقصور الفخمة والقلاع)، هذه الأفلام لها جمهورها داخل الهند وخارجها، وغالبا ما تعرض في المهرجانات والمحافل السينمائية العالمية، هذا المقدمة وان اسهبت فيها، إلّا أنّها عتبة لا بدَّ منها لفهم هذا الاتجاه المهم في صناعة السينما الهندية.
وقد شاهدت قبل أيام مجموعة من هذه الأفلام، اخترت منها فيلم “فوتوغرافيا” (2019) للمخرج الأميركي الهندي الأصل ريتيش بترا (علبة الغداء) الذي كتب السيناريو له أيضا، ومثّل فيه النجم الهندي نواز الدين صديقي (رافي)، وسانيا مالهوترا (ميلوني)، فيما صوّره تيم جيليس وبن كوتشينر، وهو يتحدث عن قصّة حبٍّ بسيطة بطلها مصوّر جوّال نازح من الريف يعيل أسرته المديونة هناك، يلتقي طالبة جامعية من أسرة ميسورة، يقنعها بالتصوير أمام بوابة الهند في مومباي، لكنّها تختفي، فيقتفي أثرها في شوارع وساحات المدينة ويعثر عليها، يعشقها بقوة وتبادله المشاعر، لكنّه يعرف حدوده، وينتهي الفيلم بفراقهما، بعد أن يخبرها عن قصّة فيلم لم يكمله: “أنا أعرف النهاية.. ثمّة الفتى الفقير يعشق حبيبته الغنيّة، ثمّ ترفضه الأسرة، فينتهي كلّ شيء، هكذا كلّ قصص الأغاني تشبه الواقع”.
لا نجد في “فوتوغرافيا” كلّ مقبلات السينما الهندية؛  فليس غير “اكشن” وأغانٍ طويلة، ولا أزياء مبهرجة، او نجم أيقوني، ولا قصص محتدمة، إنّما سرد بسيط خالٍ من المفاجآت والتقنيات الفائقة، وأحداث عادية تعتمد حبكة، قمّة ذروتها حينما تهدد الجدّة دادا (فاروق جعفر) حفيدها رافي (نواز الدين صديقي) الذي يعمل من أجل تسديد ديون أسرته بالزواج وان لم يفعل ستمتنع عن الطعام، فيضطر الى ارسال صورة البنت (ميلوني)، التي التقطها لها يوما أمام البوابة ولم تستلمها الى جدته، لكنّه يحرج بعد أن تخبره الجدّة إنّها قادمة لتشهد زواجه، يبحث عن   ميلوني (سانيا مالهوترا)  بعد أن يرى صورتها في لوحة اعلان، يتفق معها على تمثيل دور الخطيبين أمام الجدة، وينجحان في ذلك، لكنّهما يقعان في الحب، ولأنّهما يعرفان حدودهما يفترقان وفي قلبيهما لوعة.
هذه الحكاية الحزينة المستلّة من الواقع هي محور فيلم “فوتوغرافيا”، الذي ارتكز على أداء ممثلين قدما الوجه الآخر للشباب الهندي، بعيدا عن الصورة النمطيّة، فكان أداء صديقي ومالهوترا في غاية الاقناع، فهما مسترخيان ومقنعان بلا تكلف.
  قدّم لنا المخرج المدينة بكلّ تفاصيلها الصغيرة والكبيرة من خلال تسكع البطلين، وكشف لنا أيضا قاع المدينة وشوارعها الخلفية والفروقات الطبقية وبؤس النازحين من شباب الريف، ونجح مصورا الفيلم جيليس و كوتشينر في إبراز معالم مومباي بلا تزويق، فثمّة إضاءة كابية للوجه الآخر للمدينة المكتظة وآخر مشرق للأحياء الراقية، وقد تبدو مفارقة أن “فوتوغرافيا” قدم صورة للإنسان الهندي العادي عجزت عنها عشرات الأفلام التي أنتجتها السينما الهندية الاستهلاكية.