د.جبّار خمّاط
لم تعد السينما ترفاً فنيّاً يرتبط بالخيال وتصديقه بصناعة فيلم، بل أصبحت قناة عضوية في رصد الحالات الاجتماعية والنفسية والسياسية المعقدة لتكون داعما فنيا في إعادة التناغم المفقود في الحياة وما يعانيه الأفراد، وما فيلم “أخوات السلاح” (2019)، سيناريو وإخراج كارولين فوريست، إلّا وثيقة سينمائيّة للتعبير عن الرفض الدولي لداعش وجرائمه البشعة، اذ ينطلق من مركز حكاية تختصّ بهجوم داعش على سنجار وسرقة كلّ شيء، فضلا عن سبي النساء وتجنيد الفتيان تحت تسمية أشبال الخلافة، رحلة البحث عن العذراوات لأخذهنَّ متعة واستثمارا جنسيّاً لجنودهم،
لاسيما الاجانب منهم، وهنا تبدأ رحلة الدم في ذكاء صوري مشحون بالبعد الصوتي والانفعالات الحادة، داخل حدود اللقطات التي اتسمت بالديناميكية والاستمرارية والإيقاع الرشيق الذي اشتغل على عنصرين أساسيين: التشويق والإثارة، اختصّت بهما -على نحو عالٍ من الصنعة السينمائيّة- مشاهد الاغتصاب والمواجهة العسكرية وخط روائي سردي اتسم بالأفقية والثبات في زوايا اللقطات، لأنّه بمثابة محطة استراحة المتلقي من مساحة التوتر والشدّ النفسي بسبب أهوال الجرائم التي تركها داعش بين زوايا المدن.
وما تميّز به الفيلم هو المهارة في صناعة التوتر والترقّب والتشويق لدى المتلقي، من خلال مشهد اغتصاب “زارة” والمعركة التي دارت بين أخوات السلاح ومقاتلي داعش، في رشاقة إيقاعيّة اعتمدت اللقطات العامة والمتوسطة، وتحولاتها في عين المتلقي بوصفه شريكاً في صناعة المشهد السينمائي داخل الفيلم، وتحديدا حين ظهرت السيارة المفخخة وتقدمها نحو سيارة الاخوات المقاتلات، جعلت المتلقي لا يكاد يلتقط أنفاسه، لأنّه أصبح جزءاً من المشهديّة، لولا دخول الطائرة في وقت محسوب فنيّاً، لانّ السيناريو والإخراج ذكيان في إيجاد معادل موضوعي لتصوير مشهد الشراكة الفكرية والعاطفية لدى الجمهور مع شخصيات الفيلم وهي تواجه المخاطر.
إنّ صناعة المشهديّة في سردية الصورة داخل اللقطات، اعتمد المونتاج المتوازي بين مستويين يعملان في وقت واحد، وبذا يكون المتلقي الرابط بينهما، وهذا ما شاهدناه في مشهد الدم، الذي ظهر اثناء جرح زوجة المقاتل الداعشي لإصبعها وهي منهمكة بغسل الأواني وتمسك بالسكين متوترة من أصوات زارة المرعبة، وهي تستمع لصرخاتها بعد اغتصابها قبل المقاتل الداعشي الأجنبي صاحب العيون الزرقاء، وحين تتمّ عملية الاغتصاب يسيل الدم من المرأة التي تغسل الأواني، لأنّها قطعت إصبعها ليختلط بالماء وكأنّه معادل بصري لكمية التعرّق التي كانت تعاني منه زارة بسبب رعب الاغتصاب، وظهر الدم في حواريّة بليغة باختلاطه مع الصوت، حين بدأ المقاتل الأجنبي باستثارة زارة، وهو يسرد لها كيف كانت أيامه معها، فازداد غضبها وتوترها، ثمّ باغتته وأشبعته طعنا، بالتزامن مع صور سريعة تمثل حالة الاغتصاب، اذ اختلطت الصورة بالصوت لينتهي كل شيء بصمت بليغ، مع وجود ظلال بشريّة في عمق اللقطة، ليكون التكوين ثلاثي الخطوط: الإمام/الجمهور، و زارة/والخلفية ظلال الاخوات، يظهر وجه زارة عليه قطرات الدم بعد قتلها لصاحب العينين الزرقاوين، وارتياح الجمهور وكأنّه تخلص من الشحنة السلبية التي أثارها الاغتصاب، والوصول إلى الارتياح الذي يحققه القصاص.
إنّ الدم ظهر فاعلا في بناء الفيلم بصريا، إذ حقق ثنائيّة الجريمة والقصاص، باستعمال اللقطات القريبة وتصويب السلاح وانفجار الدم من الرأس في نقطتين، مرة في السيارة حين ارتعب الداعشي بحضور الاخت المقاتلة المباغت وقتلته برصاصة القصاص، وأيضا في المشهد الأخير حين لاحقته الأخت المقاتلة وقتلته من مسافة قريبة لينتهي وجود شيخ الضلالة الداعشي. وهنا نتساءل لماذا أخوات السلاح من جنسيّات مختلفة، أراد المؤلف والمخرج يقدم رسالة مفادها أنّنا بإمكاننا القضاء على داعش فكرا وممارسة، من خلال مواجهة أمميّة، وكذلك التنوّع الثقافي لكل مقاتلة من أخوات السلاح، ليحقق بذلك رسائل فكرية متنوعة تعطي إيقاعا مرنا في السردية الفيلمية. لقد أظهر الفيلم تنوعا أدائيا لدى الممثلين حقق تواصلا جيدا مع الجمهور، اما من حيث البناء المشهدي داخل الفيلم، فقط اتسم والتحولات السريعة واستعمال اللقطات السريعة البناء لإيجاد مساحة انجذاب جمالي لدى الجمهور، فضلا عن التنوع المكاني والزماني من حيث الليل والنهار، الأمر الذي أكسب الفيلم طاقة تعبيرية داخلية، أعطته لغة سينمائيّة جاذبة
الجمهور.
السؤال الذي يمكن إثارته الآن، لماذا هذا الفيلم؟ وكيف حقق هذا التفاعل العالي الجمهور؟ لأنّه بإمكان السينما إثارة البعد والروح الوطنية لديهم، خصوصا في مشاهد القصاص والقضاء على عصابات داعش.
وحقق الفيلم مقولة التطهير من الآثار السلبية التي تركها داعش في أفكار ومشاعر الناس، ان الصنعة المحكمة في الإخراج، وبلاغة التصوير المشهدي والسيناريو المحكم، أوصل الجمهور الى حالة تخلّص فيها من الآثار السلبية، وكأنّهم أصبحوا شركاء في عملية التخلّص من داعش وجرائمه٠