حسن العاني
في الخامس عشر من الشهر الماضي بلغت والدتي الثامنة والتسعين من العمر -حفظها الله وأمدَّ في عمرها- ومن غير حسد - فان هذه الحالة العمرية تعدُّ من الحالات النادرة او الاستثنائية في سلالة (جواد) احد الافخاذ الخمسة لبيت خالد العلي، وهو واحد من (52) بيتاً تتكون منها التركيبة السكانية لمدينة (عنه)، وهي تركيبة موزعة على عدد من العشائر، لكن الناس هناك لا تتحدث باسم انتمائها العشائري وانما بنسبتها الى البيوت، حين انتهيت من هذه المقدمة الغريبة اكتشفت بأنني مؤهل تماماً لان أكون (نساباً) أي اشتغل في ميدان الانساب العشائرية، فذلك افضل مئة مرة من العمل في الصحافة التي – بالتجربة- لا تورث غير الفقر والخطف ووجع الرأس!!
أعود الى حكاية أُمي المعمرة، فهي سيدة لا يفوتها رمضان ولا وقت صلاة منذ كانت طفلة، كريمة اليد عفيفة اللسان بسيطة الى حد السذاجة وساذجة اكثر مما ينبغي، لا تعرف القراءة والكتابة ولم تذهب الى (ملا) او مدرسة او مركز محو أمية... واظرف ما في هذه العجوز الطيبة، هو سلوكها الغريب الذي يجعلنا في الغالب نكتم ضحكاتنا احتراماً لها، من ذلك على سبيل المثال انها الى الآن تضع جهاز الموبايل – وهو من النوع العادي القديم – في كيس صغير من القماش يتم غلقه من فتحته بواسطة خيط متين نسبياً (يدعى كيس ابو الخراطة) – هكذا كان العراقيون قبل خمسين سنة يسمونه - وتعلقه في رقبتها تحت الفوطة، والى الآن لا تعرف كيف تتصل بأحد او ترد على مكالمة، وربما كان الاطرف، انها تجلس امام التلفزيون، وتطلب من الموجود معها في (الهول) ان يبحث لها عن فيلم مصري على شرط ان يكون بالأسود والابيض، حتى اذا انتهى (نحن مضطرون بالطبع –حيث لا خيار لنا- الا متابعته)، التفتت الى اقرب واحد منها وطلبت منه ان يحكي لها احداث الفيلم وبأدق التفاصيل (اغرب شيء لو ان احدنا نسي مشهداً من الفيلم، فانها تقول له مثلاً : (يابه اشو ما سولفت لي على فلانه اللي انهزمت من أهلها، او زواج فلانه على مرته سكتاوي!!) وطالما بكت بدموع سخية، او ضحكت من أعماقها او اعترضت بغضب لان احد أبطال الفيلم تصرف بسوء مع اخيه او جاره او صديقه او احد افراد أسرته، وكانت تتحدث عن قناعة، ان التصرف الفلاني يجب ان يكون على هذا النحو الذي يتوافق مع مبادئها وليس على النحو الذي ظهر عليه الفيلم، ولا تتوانى – بل هو ما يحصل دائماً – عن شتم أيٍّ من الابطال اذا كان تصرفه يدل على (قلة) ادب وسوء الأخلاق، من وجهة نظرها، وكانت تعاتبنا (نحن)- وليس المؤلف او المخرج- على حرمان فلان من الاقتران بحبيبته، وعلى ما تعتقد انه الصواب ولم يؤخذ به و.. ولا أحد يزعل منها او ينزعج لان تاريخها الطويل مع الأسرة يشهد كم أحّبتْ الجميع ورعتهم ودللتهم، وربما كان حسن حظ الاسرة، ان أُمي لا تشاهد غير فيلم واحد، تاركةً لنا الوقت الاعظم من البث التلفازي.
كانت أُمي تتابع الاخبار من خلالنا، تفرح وتؤيد اذا رأتنا سعداء بنقل الخبر، وتغضب وتنزعج اذا رأتنا ممتعضين، أذكر أنني حدثتها مرة عن قيام البرلمان بإلغاء مجالس الاقضية والنواحي، وانا في قمة السعادة، لان ذلك يوفر للدولة مليارات الدنانير سنوياً، فما كان منها الا ان رفعت يديها الى السماء وقالت: ربي بجاه النبي وأهل البيت ان شاء الله يوم لمجالس المحافظات وللبرلمان!! ضحكتُ من قلبي وارتفعتْ مناسيب سعادتي...