حكايات عراقيَّة

الصفحة الاخيرة 2019/11/24
...

حسن العاني 
 - 2 - 
هي غشاوة عابرة طرأت على العقول، او حبّات رمل بلون الضلالة الطائفية حملتها عاصفة صحراوية دفعتنا مكرهين الى اغماض عيوننا، لحظة او بضع لحظات ريثما ينجلي الغبار وتستعيد الرؤية عافيتها... وفي اغماضة العين تلك لم تغب عن ألق الضمير واعماق الروح وطراوة الذاكرة وصورة الوطن الأحب والعراقي الاصيل... وكنت من بين اربعة معلمين نتوزع على القاعة الامتحانية الكبيرة، يومها كنت على أعتاب السنة السادسة عشرة على دخولي هذه المهنة التي أغوتني بجمالها حتى ما اغواني جمال سواها، ومن بين الاربعة  كان ثلاثة -  كما يدل عليهم سلوكهم – مدمنين على التدخين، وانا واحد منهم، وقد عمدنا بما يشبه الاتفاق بيننا على أنّ من تحاصره الرغبة للتدخين يقف خارج باب القاعة لكي لا ينزعج الاولاد الممتحنون.. وهكذا كنّا نتناوب على اشباع رغباتنا بعيداً عن الصغار، لاحظت ان المعلم الرابع الذي اعفى صدره وعافيته وجيبه من ابتلاء الدخان، كان يحمل علبة سجائر في جيبه، ولم يكن الظرف في داخل القاعة يسمح بالاستفسار حفاظاً على اكبر قدر من الهدوء للمتحنين، حتى اذا انتهى الوقت المقرر وتوجهنا الى الادارة لتسليم الدفاتر الامتحانية سألت الرجل وكنت أجهل اسمه [أستاذ.. الظاهر جنابك خلصان من التدخين.. لكن لفت انتباهي وجود علبة سجائر بجيبك]، أحرجه سؤالي فمدّ يده الى جيب قميصه وكأنه يريد تغطية العلبة واخفاءها، غير ان المحذور وقع وليس امامه إلّا الاعتراف [الحقيقة استاذ حسن آني أدخّن.. أرجو المعذرة]، غريب .. انه يعرف اسمي، عندما استوضحت منه قال لي [معقولة أنساك .. انت المعلم مالي بمدرسة الظفر.. شلون أدخّن امامك؟!]، وهو موظف مثلي، متزوج وله ولدان ويخجل بعد 24 سنة أن يدخّن أمام معلمه....
وأنا عائد من مدينة الكاظمية حيث كنتُ في زيارة الى بيت خالي، تبضعت من هناك معظم حاجيات المنزل واتفقت مع سائق أجرة لإيصالي الى منطقة سكني في حي السلام (الطوبجي) – وبحكم منازله الحكومية فإنّها ذات مساحة واحدة، وطراز واحد، بحيث يصعب تمييز الواحد عن الآخر- اعطيت الرجل أجرته وشكرته ثم ادخلت الحاجيات، وكانت كثيرة، الى الدار، ولكنني فوجئتُ بعد ربع ساعة بعودة السائق [اخويه هاي الحقيبه الصغيره مال حضرتك.. الظاهر نسيتها.. بس تعرف تمرمرْت الى ان عرفت بيتكم، البيوت كلها متشابهه]، وفي الحال قدمت له مبلغاً يعادل ضعف أجرته.. نظر إليّ باستغراب [اخي يبيّن عليك خوش آدمي, بس تنطيني فلوس تره كلش عيب] وانطلق بمركبته.
ونحن نلعب الدومينو وصل ابو عماد وتوجه الى صاحب المقهى، الحاج سلمان، وهمس شيئاً في أذنه وأعطاه مظروفاً قبل أن يأخذ مجلسه المعتاد معنا، لم يخبرنا ماذا دار بينهما، ولم نشأ سؤاله، ومع الايام نسينا الحادثة لولا ان الحاج رواها لنا لاحقاً [سلمني ابو عماد مظروفاً فيه 300 دينار عثر عليه قريباً من المقهى، وطلب مني الاحتفاظ به فربما يصل الى اسماعي من أهل الطرف او احد روّاد المقهى انه فقد مثل هذا المبلغ، وحين لم يظهر احد بعد ثلاثة اشهر، طلب الرجل مني توزيعه بحسب معرفتي بين الأسر المحتاجة، وان يكون الثواب لصاحب المال].. عندكم كذلك آلاف الحكايات والصور المشرقة عن العراقيين برغم الغشاوة والغبار والعواصف الترابية المقبلة من كلِّ مكان...