الليلة التاسعة!

الصفحة الاخيرة 2019/12/15
...

حسن العاني 
لعل اهتماماتي الاولى بالثقافة بدأتْ في وقت مبكر وانا ابن 14 سنة، ومع انشغالي بماجدولين ونظرات المنفلوطي واجنحة جبران وزقاق محفوظ، الا ان حكايات "الف ليلة وليلة" – التي اهداني اياها مدرس اللغة العربية بعد ملاحظته انني اكتب (إنشاء حلو) على حد تعبيره – استوقفتني اكثر من غيرها (ربما لكونها هدية من استاذ رائع بمعنى الكلمة، تركت في نفسي وقعاً مؤثراً) ولذلك قرأتها غير مرة ومع الايام كنتُ اتابع ما يكتب حولها من نقد او بحث او دراسة، وقد بلغ اهتمامي بها الى الحد الذي فكرت ان ادرسها بعمق، واكشف من اسرارها وخباياها الرمزية والفنيّة ما لم يتوصل اليه احد من قبلي، لولا ان عقبة صغيرة حالت من دون شروعي بالفكرة، وذلك لمعرفتي بأنني اقل شأناً وموهبة وثقافة من التصدي الايجابي لهذا الاثر العظيم (بعد مرور ثلاثين سنة تقريباً على تلك المرحلة، بدأت اسخر من تفاهة الف ليلة وليلة، وسطحية افكارها وسذاجة اسلوبها، وانها اقرب ما تكون الى "سوالف" عجايز، وندمت على الاوقات الطويلة التي صرفتها في قراءتها قرابة خمس مرات)..
على أن الحق يقتضي كلمة الحق، فمع الملاحظات السلبية الكثيرة على هذا الاثر الذي ظل مجهول المؤلف، ولكن الليلة (التاسعة) من الفصل (الرابع)، لم تكن شبيهة بمثيلاتها من الحكايات، فهي فريدة في مضمونها وفكرتها وحتى اسلوبها، وقد تساءلت ساعتها ان كانت هذه الحكاية دخيلة او ان مؤلفها غير المؤلف الاصلي... حيث حلقت شهرزاد في هذه الليلة، وخرجت عن مألوف حكاياتها الاعتيادية، فحوى الحكاية يدور حول عصابة امتهنت السرقة عملاً لها وبرعت به، وكانت اذا اقتضت الضرورة تعمد الى القتل... وهذه العصابة قليلة العدد، لا تضم الا ثلاثة اشخاص يعيشون في مكان واحد، يخططون للسرقة وتنفيذها معاً..
وتخاطب شهرزاد زوجها شهريار قائلة: يا مولاي الامير، كان هؤلاء الثلاثة على قلّتهم قد ارعبوا الناس حتى لا يغمض لها جفن في الليل، ولم يسلم من اذاهم أحد، وقد تعبت الناس من التذمر والتشكي ومناشدة العسس والشرطة، ولكن من دون جدوى، وحصل ذات يوم مالم يكن بالحسبان فقد اختلف الثلاثة على سرقة كبيرة من (المال والذهب والاحجار الكريمة)، فكل واحد منهم يرى ان دوره اكبر في السطو على بيت المال، وبالتالي يجب ان تكون حصته بحجم دوره، وكادوا يتقاتلون لولا انهم اتفقوا على تقاسم السرقة بالتساوي وبعدها يذهب كل واحد منهم الى حال سبيله على ان يتفرقوا بين ولايات العراق وهو الامر الذي وفّر للناس الامن والامان والطمأنينة.. وتمضي الحكاية لتخبرنا ان الاقدار الغريبة شاءت ان يصبح احدهم والياً، فما كان منه الا ان استدعى صاحبيه واسمعهما كلاماً جميلاً، ثم ولّى احدهما مسؤولية الشرطة والاخر مسؤولية الخزينة، وفيما كانوا يتصافحون ويتعاهدون على الوفاء والولاء، اجهش احدهما بالبكاء وحين سأله الوالي عن سر بكائه قال : ابكاني يا مولاي الوالي امر الناس وقد تولى امرها لصان مسؤولان عن امنها واموالها.. ثم ضحكوا وتعانقوا.. الى هنا انتهت الحكاية، ولا أدري ما الذي شدني اليها بحيث قرأتها 23 مرة في العقد الاخير من القرن الماضي، واعدتُ قراءتها 16 مرة في العقدين الاولين من الالفية الثالثة، ومازلت اعود اليها بشوق وكأنها حكاية جميع الازمنة والعصور والعهود بلا استثناء