حسين السلمان
يبدو أنّ هناك توجها جادّا يروق لذائقة الشباب السينمائي العربي المنشغل بالعمل السينمائي بالتوجه نحو أفلام الانميشن على الرغم من الصعوبات الكثيرة الكامنة في حرفية هذا العطاء الإبداعي المهم. وقد ظهر هذا التوجه عند السينمائي العراقي الشاب الذي بدأ برسم معالم أولية في هذا المجال. وبعد ما قدمته عبر صحيفة “الصباح” من خلال صفحة سينما، وردتني الكثير من الأفلام من الشباب العربي الذي يريد أن يؤكد حضوره في هذا الحقل الإبداعي.
أتوقف عند تجربة شابة مهمة في صناعة أفلام الانميشن، هي تجربة المخرج والكاتب الجزائري بوكاف محمد الطاهر شوقي، الذي بدأ مشواره بفيلم روائي قصير بعنوان “بين”، ثم ينتقل كليا إلى العمل مع أفلام الرسوم المتحركة، فقدم فيلمه “لماذا”، الذي حصل على عدد من الجوائز المحلية والعالمية، وقدم هذا العام عمله الجديد “شمس” الذي أخذ طريقه للمشاركة في المهرجانات.
شمس بلا ضوء
من فوضى الكلام وضجيج الخطابات الجوفاء ودواماتها، التي تكبل كل تطلعات الإنسان يضعنا فيلم “شمس” بدقائقه الخمس ليضعنا أمام البحر الذي يطفو على سطحه إنسان مجرد من كل شيء، ضائعا في مركب خشبي بدائي بشراع منهك ومتعب وسارية متآكلة وخرقة بالية ترفرف فوقها، باحثا عن مدينته الفاضلة، بعدما لفظته السلطة بعيدا. هو ينظر للعالم الغارق في الماء بعين واحدة، خاصة نظراته للطبيعة (الماء، البحر، الأشجار، الجبال، الطيور، الحيوانات..) بما تحمله من متغيرات تجعل من عملية البحث التي يخوضها تغرق هي الأخرى في
الضياع.
ومن خلال ذلك السفر المتعب للرجل المسكين، الحالم بحياة أخرى، يصطدم من جديد حينما تطأ قدماه أرضا بعيدة، فيكون أمام ذات الموت الذي جرّده من إنسانيته في بداية حدث الفيلم، إلّا أنّه هذه المرة يطلّ من على صخرة عالية منهكا متعبا، ليعود إلى حيث ما بدأ بذات الخطابات
التدميرية.
وفي خضم هذه الأحداث المقتضبة تصبح كل أهداف الفيلم واضحة، فهو تعبير عن معاناة الإنسان في ظل أنظمة مستبدة ويكشف الفراغ المميت القائم ما بين الراعي والرعية وما بين الحاكم والمحكوم، ويتطلع الفيلم إلى مستقبل، ضمني وغير واضح المعالم، بعيدا عن الهيمنة الشمولية للسلطة التي أحكمت
قبضتها.
هنا أجد الفيلم اعتمد على طريقة سرد تتطابق بالكامل مع الأسلوب السردي المغلق الذي تعتمده القصة القصيرة جدا، فالفيلم بدأ باستهلال من صالة وتجمع بشري والسلطة تخطب ويعود مغلقا بنهاية تشبه البداية بشكل تام، وهو هنا يقع في شباك القص الدائري المغلق، وهي حالة صعبة تحتاج إلى مهارة كبيرة في تطبيق مفهوم السرد الصوري.
تنويعات في الفهم
واضح أنّ الكاتب/المخرج يبذل أقصى ما لديه وما يعرفه من حرفيات سينمائية متقدمة لتضمينها في فيلمه من غير أن يدرك أن هذه الأمر يربك الوحدة العضوية في الكثير من مفاصل الفيلم. فالانتقال من رمزية الحدث إلى الحكي الواقعي وإلى التجريد السردي لا يتماثل مع الأسلوبيّة التي تفترضها الأحداث، متمثلا في الاشتغال على الزمن الذي اعد طريقة جميلة تتناسب مع سردية الأحداث التي أوجدت تناغما فكريا/جماليا في العديد من العناصر اللغوية السينمائية، مثلما تجسد في الاستخدام اللوني (اللون هنا أحادي، هو الأسود وتدرّجاته مضيفا بعدا دراميا ارتقى بالفيلم لتأكيد رسالته الإنسانية). فالترابط ما بين اللون والصوت وحركة الكاميرا كثيرا ما تتقاطع محدثة انعطافة في حركة الفيلم، وتأتي حالة أخرى مزجت بشكل تضادي ما بين أحجام اللقطات والموسيقى، فبقدر ما يكون التقطيع الصوري قريبا من التوزيع الموسيقى تكون المؤثرات الصوتية موائمة لهذا التوزيع، وهنا في هذا التشابك (الصوتي ــ الصوري) يتسامى الحدث إلى دلالات فكرية ناتجة عن تصادم في الانتقالات ما بين اللقطات. فالانتقال من لقطة قريبة إلى لقطة عامة يمنحنا صدمة تحمل في ثناياها الإثارة وشدة الانفعال النفسي الذي يمتزج بفاعلية مع موسيقى ذات تأثير حسّي منسجما ومنطلقا من المؤثرات الصوتية (مشهد الغابة الذي أخذ موقعا متقدما في المعالجة
الإخراجيّة).
يتقدم الفيلم في حالة من النكوص والانهيار في الجانب الفكري لحركة رسالة وأهداف الشخصية متمثلة في مشهد الانهيار الكامل للرجل، إذ يسقط على ركبتيه مستسلما أمام شمس سوداء محاطة بهالة بيضاء وغيوم رمادية ممزوجا مع صوت التصفيق (الذي سمعناه في بداية الفيلم) لنعود لذات الدائرة غارقين بالخطابات المدوية والأضواء
الساطعة.