جواد علي كسّار
مهما اختلفنا حول شخصية الباحث الفرنسي غوستاف لوبون (1841 ـ 1931م) والقيمة المعرفية والعلمية والمنهجية لأفكاره، حيال الحضارات لاسيما مفهومه العنصري حول العرق التأريخي، فلن نختلف إطلاقاً على أهميّة كتابه الأشهر: «سيكولوجية الجماهير»؛ خاصّة ان هذا الكتاب قد تحوّل إلى مدوّنة من أهمّ المدوّنات لفهم نفسية الجماهير، واكتشاف قواعد سلوكها الجمعي، ومن ثمّ محاولة توظيفها، بالتجييش والتحريض والتحريك تارة؛ وبالضبط والاحتواء والتوجيه والاستغلال تارة أخرى، هذا بالرغم من مرور أكثر من مئة وعشرين عاماً على صدوره للمرّة الأولى.
السؤال الأهمّ هنا: هل تصلح مجموعة الفرضيات التي ساقها لوبون في نطاق علم النفس الاجتماعي وسايكولوجية الجماهير، منطلقاً علمياً رصيناً، لفهم وتفسير الحراكات الاجتماعية التي شهدتها شعوب العالم في الغرب والشرق، لاسيما إذا أخذنا مقولته التأسيسية التي تفيد بانّ الجماهير هي الجماهير؟ وهل في فرضياته والرؤى والأفكار والمقولات التي عرض لها، ما يعين على فهم احتجاجات اللحظة الحاضرة في بلدنا والبلدان الأخرى التي تمرّ بحراكات مماثلة؟
من زاوية زمنية محدّدة تعود تجربتي الشخصية مع الكتاب، إلى طبعة دار الساقي سنة 1991م، حين عدت إليه كمصدر في كتاب صدر لي عن الشعائر الحسينية، أثرتُ فيه سؤالاً عن المجموعة الإنسانية التي تمارس هذه الشعائر، وفيما إذا كانت تفعل ذلك من وحي اطار عقدي فقهي، أم استجابة للعقل الجمعي؟ في كلّ الأحوال، لم يشهد عقد التسعينيات من القرن الماضي والعقد الذي تلاه، تفاعلاً مع الكتاب، كالذي شهده ما بعد تحولات المنطقة في عام 2011م حتى اللحظة، حين أمسى للجماهير دورها الملحوظ في تحديد مصير الأنظمة، ولها كلمتها المؤثّرة في عالم السياسة، يشهد على ذلك أنني أكتب هذه المتابعة وأمامي الطبعة السابعة من الكتاب الصادرة عن دار الساقي سنة 2016م، ومن المؤكد أن له طبعات أُخر، رأيت بعضها في القاهرة.
يعيدنا السؤال المطروح مُباشرة لتفحّص أبرز تلك المقولات التي بثّها لوبون في طول كتابه وعرضه، وان عملية اكتشافها ليست عسيرة، خاصة مع المقدمة الاستقصائية الرائعة التي قدّم بها المفكر السوري هاشم صالح كتاب لوبون. من المقولات التأسيسية في فرضيات الإطار التفسيري للوبون، هو مفهومه الانتزاعي الذي أطلق عليه «روح الجماهير» التي هي بمنزلة «الداينامو» أو المحرّك للجماهير نفسها، وروح الجماهير عند لوبون مكوّنة من الانفعالات البدائية، ومكرّسة بواسطة العقائد الإيمانية، لا فرق بين أن تكون هذه الإيمانيات دينية أو سياسية.
من المبادئ التفسيرية التي يعرض لها لوبون، ان الجماهير عرضة للتحريض بالاتجاهين السلبي والإيجابي، حيث يكتب نصاً: «إن الانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير، يمكنها أن تكون كريمة أو مجرمة، بطولية أو جبانة، وذلك بحسب المحرّضات». من هنا تحذير مترجم الكتاب ومقدّمه هاشم صالح (وهاشم صالح ليس مترجماً، بل هو مفكّر له بنيته الفكرية) من نفاق السياسيين وخداعها للجمهور، وهو يكتب: «كل هذه الوسائل المستخدمة من قبل الأجهزة الحزبية والقادة السياسيين الذين يظهرون على شاشة التلفزيون، ترتكز على ستراتيجية واحدة، هي: الإيمان بلا عقلانية الجماهير ضمنياً، ثم التظاهر في نفس الوقت بأنها عقلانية ومنطقية! لهذا السبب يقال بأن كل زعيم سياسي يظهر على شاشة التلفزيون، يضع مسبقاً قناعاً على وجهه لكي يقول ما يدغدغ عواطف الجماهير لا ما يعتقده عمقياً بالفعل»