شاب عراقي من عامة الناس، ينتمي الى أسرة كريمة من أثرياء بغداد، أكمل دراسته الجامعية – قسم التاريخ – بتفوق، وكانت رغبته ورغبة أسرته، نيل شهادته العليا من إحدى الجامعات الفرنسية المشهود لها بالرصانة العلمية، فكان له ما أراد من دون أنْ يلتفت الى غيرة أو مزاح هذا الصديق أو ذاك بأنه سيعود بشهادة رقص فرنسية وعلاقات نسائية لا أول لها ولا آخر، فهذا البلد كما كانوا يقولون له لا يعلم التاريخ او الجغرافية ولكنه يعلم الحرية المنفلتة والسهرات الليلية وطريق النسوان.
عبدالله محمد السلمان، ابن الأسرة الثرية، كان يضحك ويرد عليهم مازحاً (وأين المشكلة إذا تعلمت الرقص والحرية المنفلتة والسهرات الليلية وعرفت الطريق الى النسوان، كلها تجارب عابرة لن تؤثر في هدفي، المشكلة مشكلتكم أنتم يا عديمي التجارب والذوق الذين يموتون من الغيرة)، وكانوا يضحكون ويتمادون في مزاحهم.. وهكذا سافر السلمان الى باريس والتحق بالجامعة، وبحكم ما يتمتع به من فطنة وذكاء، زيادة على عافية الشباب ووضع مادي جيد، فقد احتضنه مجتمع المدينة المخملي، واندمج هو في لياليه الملاح، وعقد صداقات كثيرة وعلاقات نسائية واسعة، ولكنه كان شديد التحوط، حذراً من الاندفاع وراء نزواته، متمسكاً بهدفه الدراسي، ولم تشغله جماليات الحياة الفرنسية عن إدامة الصلة بأهله وأصدقائه في العراق.. يبكي كلما بلغه نبأ عن تفجير مأساوي هنا أو هناك..
في بلاد الغربة لم ينس السلمان عراقيته لحظة، ووضع الوطن نصب عينيه، يدافع عنه وعن ناسه وتاريخه وحاضره، وهكذا كان يدخل حوارات ومناكدات مع أصدقائه الفرنسيين من الجنسين، تأخذ طابع الجد مرة، والمزاح مرة أخرى، وهو في الحالتين يردُّ ردوداً مفحمة، لأنه يمتلك من المعلومات والثقافة الذاتية ما يؤهله لكسب المعركة..
حصل ذات ليلة إنه كان مع مجموعة أصدقاء من الشباب والصبايا يحضرون حفلاً أقامته إحدى زميلاتهم بمناسبة عيد ميلادها، وبعد أنْ غنوا ورقصوا وضحكوا وأكلوا وشربوا وتعبوا.. أخذوا قسطاً من الراحة، وبما عُرف عن السلمان بين أصدقائه من صدق ووضوح وجرأة في إبداء الرأي، فقد أعرب عن إعجابه بنمط الحياة الفرنسية، وعمق العلاقات الإنسانية وصدقها بلا رياء.. وفي أثناء ذلك علّق أحد الشباب من باب المزاح (طبعاً.. هذه فرنسا.. إنها أفضل من العراق في كل شيء!) كانت المزحة ثقيلة على السلمان ولذلك قال له: (أتحداك.. اذكر شيئاً واحداً تتفوقون به علينا) (برج ايفل مثلاً!) ولم يتأخر السلمان في الرد (بالتأكيد لدينا ما هو أفضل، لأنَّ برجكم تمّ بناؤه والعالم في قمة تطوره التكنولوجي بينما بنى العراقيون برج بابل وزقورة أور قبل الميلاد وعشرات الشواهد المعمارية الأخرى وهي أعظم هندسة من ايفل وأجمل وأقل كلفة) ولم يتوقف الفرنسي عن المزاح (هل لديكم شخص موهوب مثل نابليون الذي حقق رقماً قياسيا، ففي 6 سنوات فقط انتقل من نقيب مغمور الى امبراطور) ردّ عليه السلمان (في العراق لدينا من هم أسرع، وبالمئات، من عريف الى وزير دفاع في شهرين، ومن نائب ضابط الى عقيد في 6 أشهر، ومن عامل بناء الى مقدم في 6 أيام ومن...) وضجت القاعة بالتصفيق ورفعوا السلمان فوق أكتافهم والشاب الفرنسي يعتذر ويعتذر ويعتذر.