شاب انتهازي

الصفحة الاخيرة 2019/12/22
...

حسن العاني 
الاعوام تجري مسرعة وإنه النصف الاول من ستينات القرن الماضي، وعلى وجه الدقة (1964)، سنةٌ لا تغادر الذاكرة حيث كنتُ في بداية عهدي مع الكتابة، وثمة اصدقاء اكبر عمراً واكثر علماً (ينصبون حالي المكسور) او (يرفعون خبري المنصوب)، ولكنهم يثنون على خواطري ويحثونني على النشر وانا ولد يتلعثم اذا غازلته فتاة حلوة، فكيف اقتحم ابواب الصحف وبيني وبينها رهبة وحياء؟!
في ذلك العام الذي مازال يرهق وجداني وقد بلغت التاسعة عشرة من العمر، وكان اولاد الحلال من اصدقائي الشجعان قد نشروا لي اكثر من خاطرة او مقالة ادبية في هذه الجريدة او تلك.. قررتُ خلع عباءة الحياء والتردد، وتحليتُ بقدر من الشجاعة وتوجهت الى مبنى قديم في منطقة (الحيدرخانه)، اتخذتْ منه احدى الصحف البغدادية مقراً لها – اذا لم تخذلني الذاكرة كان اسمها جريدة الشرق- وبعد الاستفسار عن الشخص الذي يمكن ان يتسلم (كتاباتي)، وجدت نفسي في داخل غرفة صغيرة بحجم زنزانة انفرادية، لا شيء يميزها سوى هالات الدخان الخانقة التي تكاد تحجب الرؤية، مع ضجيج يتعب الرأس صادر عن مروحة منضدية عتيقة!
أول كائن بشري واجهته في الزنزانة ولم اواجه غيره طوال مدة بقائي واقفاً – إنه امامي تماماً وراء منضدته – رجل كهل اتعبه شقاء العمر، وترك على وجهه علامات الحاجة، يعتمر (سدارة) سوداء قدّرتُ إنها هدية من الملك فيصل الاول ... لا تغادر السيجارة فمه... كنتُ يومها ممسوساً بالشعر (الحر) واعشق السياب واحفظ انشودته، وأقرأ كل شاعر لا يلتزم بالقافية، مثلما كنتُ اتقلبُ بين افكار سارتر واحلام ماركس واتمنى الزواج من (جينا لولو بريجيدا).. أما الخوف فكان سيد الموقف وأنا أمثل واقفاً أمامه!!
بلعتُ ريقي قبل ان تصدر عني عبارة (السلام عليكم)، غير ان تحيتي الاسلامية لم تترك اثراً على لسانه، ولم يردّ عليها بمثلها او احسن منها، ورماد سجائره يتساقط فوق اكداس الاوراق المبعثرة امامه بفوضى غريبة، يمر بالشطب والتمزيق وهو يشتم (ابن الكلب صاير شاعر براسي) أو (ابن اللئيمة حروف الجر عنده عاطله ويعتبر نفسه كاتب) وشتائم لا تصلح للنشر، ورأيت في لحظة الرعب تلك، ان مصيري سيكون شتيمة قد تطال امي بعد مغادرتي، وتمنيت الهرب مع اول مواجهة في حياتي الصحفية.. وأوهمت نفسي بأن الرجل لم يسمعني فاعدت (السلام عليكم) بآخر صيحات المنكسرين.. ومن مكان ما تلقيتُ نصف رد (وعليكم) ثم سؤال اشبه بطردي (ها .. شتريد) قلت له (عندي مقالة) رفع عينيه ونظر باستخفاف الى خوفي وسنوات عمري وقال (اسمع يا ولد.. اذا كنت من الجماعة الذين يمدون اصابعهم في البحر ليلامسوا نجمة السماء ويقولون : هذا شعر حر فلا مكان لك هنا) ولم أردّ عليه، رعبي هو الذي شتم الشعر الحر وحامله وشاربه وساقيه..
نجحت في رسم البشاشة على وجهه وغادرت الجريدة، حتى اذا استقبلني الشارع وتنفست حريتي شعرت بالقرف من نفسي، حيث كنتُ ملغوماً بالانتهازية، وكنتُ ومازلت احاول تطهير ذاتي من ذلك الموقف الذي لوّث حياتي، وكنتُ وما زلت اعجب من اولئك الذي يبيعون اقلامهم وينشدون ابتسامة السلطة، ويتربعون راضين مطمئنين على دنانير الذل والهوان.