جواد علي كسّار
ليس من باب التكرار العودة إلى الفكرة نفسها، بل هي من باب الانتباه إلى كلمات «كلمة الله» عيسى، وما تطويه من سطعات نور، ودلالات موحية، وأسلوب أدائي تتصف به البلاغة العيسويّة.
• يضع ابن الصديقة يده بعمق على دواخل الكينونة الإنسانية، وما تعانيه من أمراض، وهو يرسم لنا هذه الصورة: «داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه! فقيل: يا روح الله، وما الأحمق؟ قال: المعجبُ برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كلّه له لا عليه، ويوجب الحقّ كلّه لنفسه ولا يوجب عليها حقاً؛ فذاك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته».
• في الصحيفة العيسويّة كثافة نصيّة مشهودة، عن الحكمة: «إن الحكمة نورُ كلّ قلب». وكما تصلح الصقالة السيف: «كذلك الحكمة للقلب تصقله وتجلوه، وهي في قلب الحكيم مثل الماء في الأرض الميتة، تحيي قلبه كما يُحيي الماء الأرض الميتة، وهي في قلب الحكيم مثل النور في الظلمة، يمشي بها في الناس».
• لكن للحكمة شروطها لكي تينع في القلوب، يأتي في طليعتها أن لا ترين عليها الذنوب، ولذلك يدعونا روح الله وكلمته: «أسرعوا إلى بيوتكم المظلمة فأنيروا فيها، كذلك أسرعوا إلى قلوبكم القاسية بالحكمة، قبل أن ترين عليها الخطايا، فتكون أقسى من الحجارة».
• الحكمة بعد ذلك وقبله نفيسة في منطق عيسى، لا يستحقها إلا أهلها: «يا معشر الحواريين لا تلقوا اللؤلؤ للخنزير، فإنّه لا يصنع به شيئاً»، إذ ترسم لنا كلمات عيسى المعادلة التالية: «لا تحدّثوا بالحكمة الجهّال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم».
• للجنة ثمن يمرّ بالبصيرة: «كيف يصير إلى الجنة من لا يُبصر معالم الدين؟». معالم الدين في المنطق العيسوي، لا تؤخذ بالعقل وحده، أو بالقلب وحده، بل هي جمع بين الاثنين؛ بين البرهان والإيمان، بين العقل والقلب، فمحلّ البرهان ومسكنه العقل، ومحلّ الإيمان ومسكنه القلب، والبصيرة جُماع الاثنين، وهي طور يأتي ما بعد العقل، وليس إلغاءً له!
• من روائع كلماته حرصه على أن يكون الإنسان مسلحاً بالنقد، ورفض البلاهة، خاصة الممتزجة بالمقدّس، وألا يأخذ الكلام على عواهنه؛ بالهوى والاعتباط والمزاج دون معيار، وهذا النص آية روعته: «كونوا نقّاد الكلام، فكم من ضلالة زُخرفت بآيةٍ من كتاب الله، كما زخرف الدرهم من نحاسٍ بالفضّة المموّهة، النظر إلى ذلك سواء، والبصراء به خبراء».
• روحه الشفيفة تفيض في هذا النص الإنساني الموحي: «إن التارك شفاء المجروح من جرحه، شريك لجارحه لا محالة، وذلك أنّ الجارح أراد فساد المجروح، والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً».
• يلتفت إلى حوارييه يوماً، ويقول: «يا معشر الحواريين، لي إليكم حاجة، أقضوها لي، قالوا: قُضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقداهم، فقالوا: كنّا نحن أحقّ بهذا يا روح الله، فقال: إنّ أحقّ الناس بالخدمة العالم، إنّما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم، بالتواضع تُعمر الحكمة لا بالتكبّر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل».
لم يكن نبي الله وكلمته يقصد بالحكمة المعرفة النظرية وحدها؛ وجودية وحياتية وحتى دينية، بل ما يكون سبباً ليقظة الإنسان، ومقدمة للعمل، ففي المنهاج التربوي لعيسى، قوله: «إنما أُعلمكم لتعملوا»، وتمام اتقان الحكمة لا يكون إلا بالعمل: «بحقٍّ أقول لكم: إنّ الناس في الحكمة رجلان، فرجل أتقنها بقوله وصدّقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله وضيّعها بسوء فعله».