أعرف الخالة (فضيلة) – هكذا كنا نخاطبها .. الخالة – أكثر مما أعرف خطوط كفي، امرأة على مشارف الخمسين.. جميلة برغم نوائب الدهر، وربة بيت نادرة، وعنوان للخلق الكريم، وأمٌّ أحسنتْ تربية ولدها الوحيد (أحمد) على ما يُرضي الله والناس، وهي بمقاييس العمر الاعتيادية والحياة الطبيعية، تعدُّ سيدةً في قمة شبابها وقوتها وانوثتها، ولكنها وهي تتوجه الى المركز الانتخابي، كانت تسير بظهرٍ منحنٍ وخطى بالكاد ترتفع عن الارض، وتتوكأ على عصاة وقد نفرت خصلة شيب من تحت فوطتها، فيما كانت عيناها شبه المغمضتين تتلمسان الطريق بصعوبة، كم مرة تعثرت في مشيتها، وكم مرة سقطت على الارض، وكم مرة تعرّض جسمها للرضوض والكدمات، ولا تحصى عدد المرات التي أعانها سكان المحلة واولاد الحلال على عبور هذا الشارع او صعود ذلك الرصيف.. وبرغم تلك الحال، أصرّتْ على الحضور الى المركز الانتخابي وكأنّها زعيمة حزب سياسي حريصة على الإدلاء بصوتها..
مَنْ يعرف السيدة (ام أحمد)، ويعرف عمرها الحقيقي يصعب عليه أن يصدق ما يرى، فهو امام عجوز في الثمانين، لم يُبقِ لها العمر سوى خارطة مرتبكة من التجاعيد.. والقضية باختصار تكمن في محنة الخالة فضيلة التي بدأت يوم تزوجت ابن خالتها الذي يكبرها بعامين بعد قصة حب عذبة، ومواجهات مريرة مع والد فضيلة.. انتصرت ارادة الحب أخيراً، ولم تكد تكمل معه عاماً واحداً من الحياة الزوجية، هي أسعد أيام عمرها وأجمل ما تحتفظ به من ذكريات، حتى أخذوه من مقر عمله وألزموه بالذهاب الى الجبهة، وذهبت محاولات الشاب سدى لإقناعهم بان زوجته ستبقى وحيدة في المنزل من دون عين ترعاها...
بقلوب تفتقر الى الرحمة، وآذان صماء لا تسمع الوقائع وعيون اصابها العمى فلا تبصر الحقائق، تم ارساله الى الجبهة، وكان ذلك مطلع عام 1988، وما أن انتهى الشهر الاول على التحاقه حتى حصل على اجازته العسكرية الدورية، وعاد الى زوجته وحدّثها عن اهوال الحرب وكيف يمر بهم الموت في كل لحظة على بعد متر او دون ذلك، وكانت تضمه الى صدرها وهي تبكي، وفي اجازته الاعتيادية الثانية أخبرها أنّهم نقلوا وحدته العسكرية الى الخطوط الامامية، وانهم يعيشون ويتنقلون ويأكلون وينامون ويدندنون بأغانيهم العراقية القديمة في شقوق ارضية، وحركتهم لا تجري إلّا في الظلام فبكت خوفاً وهلعاً، وقبل ان يحين موعد اجازته الثالثة نالت منه شظية صاروخ انفجر قريباً منه... فارق الحياة من لحظته قبل ان تكتحل عيناه برؤية ولده، وفضيلة لا معين لها ولا سند، والدنيا برغم الخيرين ألعن من غابة ذئاب احياناً، وكان على الارملة الممتلئة جمالاً وشباباً وانوثة ان تواجهها وحيدة.. وبلغ احمد مبلغ المراهقة طالباً متفوقاً في الدراسة، ولأنّه خريج مدرسة الخالة فضيلة كان يتفجر مروءة ورجولة ويعين أمه على تدبّر لقمة العيش.. انهى دراسته الجامعية متفوقاً، وحصل على وظيفة ولكن رصاصة من ملثم مجهول سرقت حياته قبل الالتحاق بوظيفته.. المشرفة في مركز الاقتراع سألت الخالة العجوز عن الشخص الذي ترشّحه، فردّت عليها: لا أعرف أحداً منهم، أرشّح من يقتصَّ لي من قاتل ولدي ويوفر لي لقمة خبز وكرامة.. بكت المشرفة ووضعت الاستمارة الانتخابية في الصندوق فارغة!!