جواد علي كسّار
أعادت وفاة السوري الراحل محمد شحرور قصة المفكر الإشكالي في الوسط العربيّ والإسلامي؛ هذه القصة التي يمكن أن نستحضر لها أمثلة بارزة أطلّت علينا خلال قرن من الزمان.
فكلّنا يعرف الضجّة الكبيرة التي أثارها كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين (ت: 1973م) حين أصرّت القراءة الناقدة للكتاب، على أن قصد المؤلف من وراء كتابه، هو التشكيك بوحيانية القرآن الكريم. وفي فترة مقاربة جداً، وحيث لم تنطفئ بعد الضجّة التي أثارها طه حسين، اهتزّت الساحة الفكرية بنقاش عنيف انطلق هذه المرّة، حول أطروحة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق (ت: 1966م) من خلال كتابه المثير «الإسلام وأصول الحكم»، وهو الكتاب الذي قام على أطروحة خلو الإسلام كدين من نظام الحكم، وإن كان هذا النظام موجوداً في تأريخ المسلمين، بحكم قواعد العقل العملي وما تمليه الضرورات الحياتية.
على الغرار نفسه وفي اتجاهٍ جاء متواصلاً مع طه حسين، أطلق محمد أحمد خلف الله (ت: 1983م) هزّة عنيفة في الوسط الفكري عبر أطروحته: «الفن القصصي في القرآن الكريم» فيما بدا وكأنه تشييد نظري لفرضية طه حسين. وفي أفق زمني متداخل مع إشكاليات طه حسين وعلي عبد الرازق وخلف الله، ارتجّت الساحة الفكرية في العالم العربي، بعنوان انطلق هذه المرّة من السعودية، مع عبد الله القصيمي (ت: 1996م) صاحب الكتاب المشهور: «العرب ظاهرة صوتية»، والحقيقة ان هذا الكتاب لم يكن هو ما يُمثّل عنوان الضجّة، بقدر ما كان يُمثّل ذلك صاحبه. فعبد الله القصيمي نشأ متديناً، شديد التشرنق داخل نسقه السلفي، دافع في «البروق النجدية» عن الوهابية، وهاجم الأزهر والتدينَيْن السنّي والشيعي على حدّ سواء، لكن ما لبث أن انقلب باستدارةٍ كاملة، على ذاته ومتبنياته ومعتقداته، واستدار بدائرة تامة من الإيمان إلى الإلحاد، ومن السلفية إلى الحداثة، وسار قلمه في الاتجاه نفسه، تبعاً لمتبنياته العقلية الجديدة.
جمال البنا (ت: 2013م) شقيق حسن البنا (ت: 1949م) يعكس نسقاً شديد التموّج، داخل إشكاليات الفكر الإسلامي، خلال العقود الأخيرة، خاصّة مع كثافة انتاجه وسعة الطيف الفكري الذي اشتغل عليه، سواء كان ذلك على مستوى القضايا المحورية العامّة، من قبيل ما ذهب إليه من أن «الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة» في قطيعة جذرية حادّة مع الفكرة المحورية لحركة أخيه حسن البنا، التي تمركزت حول شعار الإسلام دين ودولة؛ أو على المستوى الفقهي وما أسماه بـ«الفقه الجديد» هذا الفقه الذي نقرأ في بعض ملامحه، القول بإمامة المرأة، وان الحجاب ليس فرضاً، وان تفسير القرآن ينبغي أن يخضع لقواعد فهم جديد، وأمثال ذلك مما هو منثور بين كتبه ودراساته التي تخطّت المئة.
نصر حامد أبو زيد (ت: 2010م) هو مثال آخر للمفكر الإشكالي الذي ضرب بعصاه الركود الفكري، والسكون عند المسلمات، كما فعل معرفياً في «مفهوم النص» و «نقد الخطاب الديني»، أو سجالياً في كتابه: «التفكير في زمن التكفير» أو من خلال نقده لنمط التفكير الأشعري، عبر التركيز على المعتزلة في النقدية العقلانية والتفكير العقلي، أو من خلال الاحتفاء بالتجارب الروحية الكبرى والفتوحات المعنوية المميزّة، وعلى رأسها تجربة الشيخ الأكبر ابن عربي (ت: 638هـ) في الفتوحات وغيرها.
لا ريب أن محمد شحرور الذي رحل عنّا قبل أيام، هو حلقة تضجّ بالحركة في دائرة الفكر الإشكالي، بدءاً من قراءته المعاصرة لـ«الكتاب والقرآن» وانتهاءً بنظريته عن المؤسسة الاستبدادية، ولنا للموضوع عودة بإذن الله العزيز.