الشعبوية الفكرية!

الصفحة الاخيرة 2020/01/06
...

جواد علي كسّار
كانَ عنوانُ المقال: «تحية للقضاء المصري» أو شيئا قريبا جداً من هذا المضمون. فاجأني العنوان خاصة وهو يصدر عن صديق قريب، يكتب الصحافة ببطانة الفكر فيعطي لمقالاته قيمة مضاعفة؛ وكتابة الصحافة بهذا الأسلوب هو فنّ تجيده قلّة، ويعجز عنه كثيرون.
زاد من المفاجأة أنّ موضوع المقال الفكريّ، يرتبط بالمفكر المصري نصر حامد أبو زيد (ت: 2010م) ويعود تأريخه إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي؛ وقد استفزني المقال من جهتين؛ هما العنوان والموضوع، فقد استغربت من تحية المقال للقضاء المصري التي جاءت بالمطلق، خاصة أن مزاجنا في سنوات المعارضة كان يميل إلى الادانة بالمطلق، لكل ما يرتبط بالدولة ومؤسساتها!
لم أصبر، بل سألت الصديق في أوّل لقاء جمعني معه بعد أيام قليلة من نشره المقال؛ سألته: ماذا سيكون موضع هذا التأييد المطلق، لو أن القضاء المصري أصدر قرارات لا تروق لك ولنا؟ وكثيراً ما كان يحصل ذلك أيام المواجهات الجزئية بين الإسلاميين في مصر ونظام مبارك! ثمّ دار النقاش بعد ذلك حول جزئية أخرى ترتبط بالموضوع؛ تحديداً بمدى أهلية المحكمة التي اتخذت القرار، بشأنٍ من أخصّ خصوصيات الإنسان، حين حكمت بالتفريق قسراً بين أبي زيد وزوجته د. ابتهال يونس الأستاذة في الأدب الفرنسي، على أساس: «أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم»، وذلك بعد أن علت أصوات بتكفير أبي زيد، كان على رأسها اتهام المفكر الإسلامي المصري عبد الصبور شاهين (ت: 2010م) لأبي زيد بالكفر الصريح البوّاح، قبل أن يصطّف معه آخرون.
سألت صاحبي كاتب المقال: هل يعجبك هذا الخلط بين المتبنيات الفكرية التي هي أقرب إلى الاجتهاد، والشأن الشخصي؟ ثمّ ألا يسعنا أن نتعامل مع أفكار أبي زيد، بمنظور الاختلاف الفكري وتعدّد القراءات، أو نضعها في نطاق الاجتهاد بدائرته الواسعة التي تشمل الرأي الفكري خطأً وصواباً؟ شعرت من خلال الحوار أن صاحبي لم يكن قد أطلع على كتب أبي زيد، بل كتب مقاله مكتفياً بأصداء الضجة الكبيرة التي ثارت يومها في القاهرة، عن أبي زيد وكتبه وأفكاره.
أردت أن أقطع الشك باليقين، حين سألت صاحبي: ماذا قرأت من كتب أبي زيد؟ وبمَ تنقم عليه؟ هزتني المفاجأة حين أجابني بصراحة يشكر عليها، أنه لم يقرأ شيئاً لأبي زيد، بل لم يرَ أياً من كتبه!
يومذاك كان قد صدرت لنصر حامد أبو زيد أربعة كتب، كانت ولا تزال هي كتبه الأساسية، رغم أنه أصدر بعدها عدداً آخر من الكتب. نهضت إلى زاوية من المكتبة ووضعت بين يدي صاحبي: «الاتجاه العقلي في التفسير» وهو دراسة للمجاز عند المعتزلة؛ وكتاب: «فلسفة التأويل» وهي بحث مركز لتأويلية الشيخ محيي الدين ابن عربي نال بها أبو زيد شهادة الدكتوراه، ثم كتابه: «مفهوم النص» وهي دراسة جادة في علوم القرآن، وأخيراً: «نقد الخطاب الديني».
هذه الواقعة، وأمثالها في حياتنا الثقافية والمعرفية كثير؛ تؤشّر على ما يمكن تسميته بـ«الشعبوية الفكرية»، وفي ظنّي أنّ الشعبوية الثقافية والفكرية، هي أسبق من الشعبوية السياسية والاجتماعية وأعرق منهما؛ بل قد يمكن القول أن الشعبوية المعرفية، هي الأساس في جميع ألوان الشعبويات، بديهي إذا صحّ نحت المصطلح الذي نطلقه هنا مجازاً، لأن المفروض أن المعرفة تتحصّن ببنيتها ونسيجها الخاص، وتنأى 
عن الشعبوية!