رجلٌ في الذاكرة

الصفحة الاخيرة 2020/01/07
...

حسن العاني 
في تجاربنا الشخصيَّة، يحتفظ كل واحد منا بصورة لا تغادر الذاكرة لشخص ما، سواء كان رجلاً او إمرأة، تربطك به صلة قرابة او صداقة او مجرد معرفة، وبحكم المميزات الاستثنائيَّة لهذا الشخص، فأنه لا يبرح مكانه من الذاكرة ولو بعد أربعين سنةً، ومهما امتد بنا العمر..
كذلك هو "عبدالله العراقي"، وتلك هي حاله، والعراقي الذي وافته الشهادة قبل عشر سنواتٍ في واحدةٍ من عبواتِ الاجرامِ الداعشيَّة، صديق قديم انهى دراسته الجامعيَّة في العام الدراسي 1969 /1970، وعمل في سلك التدريس استاذاً لمادة الفيزياء، ومع تخصصه العلمي، غير أنه كان على قدرٍ عالٍ مما يمكن ان نسميه بالثقافة الموسوعيَّة، لكونه قارئاً جيداً، ومتابعاً حريصاً لكل جديد في ميادينِ العلومِ والآداب، وتعدُّ مكتبته من نوادر المكتبات لكونها تضمُّ أكثرَ من ثلاثة آلاف كتاب معظمها من المصادر المهمّة، هذا غير ارشيف ضخم من الصحف والمجلات وشتى المطبوعات.
غرابة "العراقي" او ميزته اللافتة للنظر تكمن في ولعه الى حد الهوس بإثارة الاسئلة الكثيرة في كل شيء وعن كل شيء، والتي يختلط فيها الجد بالهزل، بل لم نكن ندري ولا نعرف حدود الجد من المزاح، وقبل ذلك فعبدالله مشاكس (من دون ايذاء او اساءة) يحب مناكدة الآخر في اي قضيَّة، ومستعد للدفاع عن الشيء وضده بالحماسة نفسها، وقد عرفت منه مباشرة في جلسة خاصة، انه يجد في ذلك متعة ما بعدها متعة، خاصة اذا نجح في اغاضة المقابل، وكل ما يعنيه في النهاية على حد تعبيره: هو أن يضحك، ويشيع من حوله جواً عابقاً بالمرح... وفي الاحوال كلها لا تصح الاستهانة بحواراته وملاحظاته واسئلته، لأن الرجل لا يجادل عن فراغ، بل يقف حقاً على كنز من المعرفة والمعلومات...
تحضرني الآن إحدى الجلسات التي كنا – نحن مجموعة الأصدقاء- نتحاور فيها ونتساءل عن الأسباب التي أدت الى حصول إخفاقات هنا او هناك، سواء في ملف الخدمات والمشاريع الصناعيَّة والزراعيَّة، أو في الملف الأمني...الخ، واتفقنا بما يشبه الاجماع على أن وصول عناصر غير كفوءة الى مواقع المسؤولية قد أدى الى ما بلغته البلاد، ولكن العراقي كالعادة هو الوحيد الذي خرج على الاجماع وقال (هذا غير صحيح، لأن من يتحمل الاخفاق هم العناصر الكفوءة في مواقع المسؤوليَّة، لأنها لم تأخذ دورها ورفعت الراية البيضاء، ومنطق الاشياء يقول: ارشدوا الجاهل وحاسبوا العالم)، وقد اثار رأيه زوبعة من النقاش أدت الى ان يغير بعضنا رأيه ويلقي باللائمة على المخلصين واصحاب الكفاءات... في اليوم الثاني تجدد الحوار وخرجنا بما يشبه الاجماع ان الكفاءات هي التي تقف وراء الاخفاقات كما قال العراقي البارحة، الا انه اعترض بشدة وقال (انتم تتناسون بـأن القرار لا يمتلكه اصحاب الكفاءات، ولا لوم على من لا يمتلك القرار) واثار من جديد زوبعة من النقاش.. هذا هو العراقي، واطرف ما أذكره عنه، ان حديثاً دار بيننا حول النبي يوسف (ع) وفجأة قطع حوارنا بسؤال غريب (هل الذئب الذي اكل يوسف ذكر ام انثى؟) قلنا له ونحن نضحك (الذئب لم يأكل يوسف) ولكنه عاد يسأل (الذئب الذي لم يأكل يوسف، هل هو ذكر ام انثى؟)، الحقيقة لم نستطع التوصل إلى اجابة مقنعة!