الضعف ليس هزيمة!

الصفحة الاخيرة 2020/01/08
...

 جواد علي كسّار
لا تزال لذة قراءة خفايا الحياة اليابانية تعيش معي، عبر كتاب باتريك سميث: «اليابان: رؤية جديدة». بالفعل هي رؤية جديدة يطوف فيها المؤلف بقرابة خمسمئة من الصفحات، على التاريخ المخبّأ لليابان، وما أسماها «أسوار القلوب» و «الفضيلة المراوغة» وغير ذلك.
لقد قرأت الكتاب كاملاً قبل بضع سنوات لم أسقط شيئاً، مع الملاحظات والتهميش، ثمّ تكرّرت عودتي إليه في مناسبات مختلفة. وكذلك فعلت قبله مع المقارنة الاستقصائية الجادّة، التي أنجزها د.مسعود ضاهر بين الواقعين العربي والياباني، عبر كتابه: «النهضة العربية والنهضة اليابانية» حين ركّز بكثافة على تشابه المقدّمات واختلاف النتائج.
قد يُخيّل للإنسان أنّه بلغ الامتلاء ووصل حالة الاشباع، بقراءة بضعة كتب جادّة عن اليابان، وأنه لم يعد بحاجة إلى المزيد، وهذا من الوهم. لقد وقع بيدي هذه المرّة مقال مثير بمضمونه وكاتبه؛ ففي سيرة الكاتب مجتبى صدريا أنه أستاذ في الجامعة المركزية باليابان، له اختصاصات عدّة بالتاريخ والفلسفة والاقتصاد، درس في فرنسا وألمانيا، من مؤلفاته باللغة اليابانية مُباشرة: «الواقعية أو فخ العلاقات الدولية» وكتاب: «الوطنية في اليابان». أما مضمون المقال، فيتّجه فيه الكاتب مُباشرة إلى ما أطلق عليها «الأسس الفكرية للتنمية اليابانية».
يسجّل الكاتب أن اليابان كانت تحت مرجعية الصين (وهو تعبير مهذّب عن التبعية!) حتى عام 1840م، قبل أن يتراجع الدور المرجعي للصين عبر هزيمتها بحرب الترياك، لتفتح اليابان أبوابها أمام المدّ التجاري الأميركي الزاحف، بعد تحذير الكابتن بيري عام 1853م، حيث أمهل طوكيو سنة واحدة فقط لتفتح حدودها للتجارة الأميركية، أو أن تقوم أميركا بغزو اليابان!
ضمن الحفريات التي يقدمها الكاتب للبنية اليابانية، يضعنا أمام ثلاثية كانت تتحكم يومذاك بوضع اليابان عامّة، هي التفكير الخرافي أو الفلكلوري، الذي كانت له الهيمنة على الجمهور الياباني العريض خاصّة في الأرياف، ثمّ العقل السليم الذي برز خاصّة عن فئة الساموراي بطبقاته الثلاث العليا والمتوسطة والدنيا، وأخيراً التفكير الديني. المدهش أن اليابان انطلقت بنهضتها، بالاستناد داخلياً إلى هذه المؤثّرات الثلاثة، من دون إلغاء أو خجل، وبمكاشفة صريحة لذاتها، وتقويم عقلاني لامكاناتها.
ففضلا عن الإرادة السياسية للنهوض خاصّة على عهد الميجي، ارتكزت النهضة اليابانية إلى مبدأ مواجهة الغرب، لكن ليس من خلال نفيه على نحو مطلق، أو مواجهته بالعنتريات الفارغة والشعارات الجوفاء والثورية الحمقاء، بل عبر اكتشافه، ومعرفة مرتكزات قوته الفكرية والمادية واستيعابها، وهذا ما حصل في أقلّ من نصف قرن، حيث بلغت اليابان من القوة مطلع القرن العشرين، إنها غزت الصين، وهزمت روسيا عسكرياً.
من أبرز مرتكزات النهضة اليابانية، أن اليابان انطلقت إلى العالم من دائرة الضعف، وليس من دائرة القوّة كما هو المألوف. يذكر الكاتب إن أهم عامل أخلاقي في تكوين النهضة اليابانية، هو إقرار الشعب الياباني بنقاط ضعفه، والتعامل مع هذا الضعف واقعياً، من دون تزييف أو تعالٍ أو غرور أو قلب لحقائق الواقع، فبثقافة الإقرار بالضعف والاعتراف به، انطلقت اليابان إلى المسرح العالمي، كقوة مقاتلة شرسة، بعد أن أسست لنهضتها في الداخل.
درس اليابان أن الضعف لا يعني الهزيمة، بل تستطيع القراءة الواعية والتعامل العقلاني، تحويله إلى قوة واقتدار، وهذا هو أحد أكبر دروس اليابان لبلدنا في اللحظة الحاضرة!