الإدمان

الصفحة الاخيرة 2020/01/10
...

حسن العاني 
 
عبر الخمسين سنة التي عشتها وأنا في عمر يسمح لي أنْ أراقبَ الأحداث وأستوعبها، وربما أسهم الى حدٍ ما في تحليلها، وقفتُ على حالات عديدة من أنواع الإدمان، أغلبها إنْ لم يكن ذا طبيعة مرضيَّة قد تؤدي بصاحبها الى الهلاك، فإنَّها في الغالب الأعم سيئة، من ذلك إدمان التدخين بأنواعه، أو تعاطي المخدرات أو الإفراط في الطعام أو شراء الملابس أو استعمال الماكياج... أو... والأطرف في هذا المجال هم الرجال المغرمون بكثرة الزواج والطلاق، أي إنهم مدمنو نسوان!
في العام 2013 على ما أذكر: كنت مع مجموعة أصدقاء، قد أقمنا حفلة تكريميَّة لأحد أصدقائنا العائد من لندن، وهو فنان مغترب غادر العراق منذ سبعينيات القرن الماضي، وكانت زيارته في ذلك العام هي الأولى للبلد والتي لن تستغرق أكثر من شهرٍ واحد بحكم طبيعة عمله في بريطانيا، وبعد أنْ فرغنا من وجبة الطعام والمزاح والدغدغات والعواطف، وجدنا أنفسنا ننشغل في حديثٍ جادٍ عن الفن عامة والسينما خاصة، وكيف تراجعت الحركة الفنيَّة في عموم الأقطار العربيَّة بما فيها مصر، في حين تردت أوضاعها على المستوى المحلي الى الحد الذي يصعب الكلام معه عن سينما أو مسرح، وقد تباينت آراؤنا في أسباب التدني، فمن قائل إنَّ النظام السابق هيمن على الفن وجيَّره لصالحه وأفقده روح الانطلاق بعد أنْ سلب منه حرية التعبير التي هي أهم شروط الإبداع، الى قائل إنَّ مرحلة ما بعد 2003 أهملت الحركة الفنيَّة وتجاهلتها، بل نظرت إليها بعين الازدراء، ودار كلامٌ كثيرٌ لم تبق فيه زيادة لمستزيد، وفجأة انتبهنا الى حوار محتدم بين أربعة نواب على إحدى الفضائيات، وهو الأمر الذي دفع صاحب المنزل الى رفع صوت التلفاز، غير أنَّ الحوار كان مستهلكاً، ولم يستوقفنا فيه شيء جديد، ولذلك راح الرجل يحرك (الريمونت) متنقلاً من فضائيَّة الى فضائيَّة أخرى، وقد استرعى انتباهنا أمرٌ غريبٌ أثار دهشتنا، فمن أصل 41 فضائيَّة عراقيَّة تابعناها، زيادة على ست فضائيات عربيَّة (بالطبع كانت متابعة سريعة)، لاحظنا أنَّ النواب الأربعة تكرر ظهورهم بصورة فرديَّة أو مع نواب 
آخرين، في خمس فضائيات، فيما رصدنا نواباً آخرين تفاوت ظهورهم بين 8 - 10 فضائيات عراقيَّة وعربيَّة، وقد أثارت هذه الظاهرة شهيتنا للحوار، أو بالأحرى فضولنا، مثلما أثارت فضولنا قضية أهم من هذا الظهور، لأنَّ هؤلاء النواب لا يكتفون بأحاديث السياسة، بل يخوضون في أية مسألة وأي 
موضوع يطرح للنقاش، من فلسفة ماركس الى فلسفة برتراندرسل، ومن فوائد (الديرم) الى مضار أحمر الشفايف، حين ناقشنا هذه الظاهرة رأينا أنَّ هؤلاء مصابون بالنرجسيَّة العالية، أو يعانون من عقدة نقص في هورمون الشهرة، أو يحاولون استغلال وسائل الإعلام بهدف التهيئة المبكرة للانتخابات المقبلة.. غير أنَّ صديقنا المغترب قال: (صدقوني أنَّ مدمني الفضائيات يدركون أنَّ وصولهم مجدداً الى قبة البرلمان مستحيل، ولذلك يخططون من الآن للحصول على فرصة عمل بصفة 
محللين سياسيين، ولكنْ فاتهم أنَّ الفضائيات لن تتورط مع أشخاص استهلكوا أنفسهم، وأنَّ المُشاهدَ ينفرُ من وجوهٍ اضطهدته أربع سنوات)، كانت وجهة نظره غريبة حقاً.. ولكنها مقنعة جداً!!