الإصلاحية!

الصفحة الاخيرة 2020/01/11
...

 جواد علي كسّار
الإصلاحيَّة منهجٌ عريقٌ في حياة المسلمين، وهي الأوسعُ حضوراً في تأريخهم الحديث والمعاصر، يشهد على ذلك الأسماء الكبيرة التي لم يحجبها الصوت المرتفع، للانقلابية والثوريّة والتغييريّة الشاملة.
فلا تزال مآثر جمال الدين الأفغاني حاضرةً في وعي العرب والمسلمين، معه وإلى جواره أسماءٌ مؤثّرةٌ أخرى، مثل محمد عبده ومدرستِه في مصر، وعبد الحميد بن باديس ومدرستِه في الجزائر، وطاهر بن عاشور ومدرستِه في تونس، وعلّال الفاسي في المغرب، والكواكبي والقاسمي وأضرابهما في الشام، ومحسن الأمين وعبد الحسين شرف الدين ومحمد جواد مغنية في لبنان.
هكذا الحال إلى بقيّة الأسماءِ والاتجاهاتِ التي رصدها الدارسون، ويمكن العودةُ إليها في أمهاتِ المصادرِ التي أرّختْ لهذه البرهة من تأريخنا، وبخاصّةٍ كتاب ألبرت حوراني: "الفكر العربي في عصر النهضة"، أو الأهمّ منه من حيث السعة والشمول والموضوعية؛ الكتاب الموسوعي: "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث" للمفكر الرصين فهمي جدعان.
وللإصلاحيّة جذورها الراكزة في حاضرة النجف الأشرف، ولها أعمدة كبيرة أمثال محمد حسين كاشف الغطاء، وهبة الدين الشهرستاني الحسيني، ومحمد رضا المظفر ومحمد أمين زين الدين ومحسن الحكيم وأضرابهم، من دون أن ننسى الأثرَ السياسيَ العميقَ للروح الإصلاحيّة والتأثير الكبير لرادتها، إبّان الحركة الدستوريّة، التي اشتعل أوارها مطلع القرن العشرين، وتداخلت بين اسطمبول وطهران والنجف الأشرف.
من خصائص الإصلاحيّة وسماتها التي تجعلنا ننحاز إليها فكرياً، أن ليس لها مشكلة كبيرة مع مقولة "الشرعية" مثلما هو الحال مع التيارات الحركية وحركات الإسلامي السياسي؛ فالحركيّة الإسلاميّة تأسست وفي صميم انطلاقتها أن تملأ فراغ "الشرعية" أو "المشروعية" الذي ضرب العالم الإسلامي برأيها، بعد انهيار خلافة المسلمين وغياب الدولة الإسلاميّة. ولذا يعدّ مبحث الشرعية أو المشروعية من أعقد المباحث وأعوصها عند الحركيين وفي مدرسة الإسلام السياسي، على عكس الحركة الإصلاحيّة.
عدم وجود مشكلة عميقة لقضية المشروعيّة عند الإصلاحيين، ليست هي الخصلة الوحيدة لهذا الاتجاه، بل ثمّ إلى جوار ذلك عدم وجود مشكلة أساسيّة للإصلاحيّة مع الدولة الحديثة، لأنها ببساطة من دعاة الدولة العصريّة. وربما كان من أبرز خصائصها الأُخر، طابعها الانفتاحي على جميع فئات المجتمع وأطيافه، من دون تمييز أو حسّاسيّة، أو التورط بنخبويّة مترفّعة غالباً ما تمسّك بها الحركيون وأحزابهم، على النحو الذي أثّر سلباً في علاقاتهم مع الجمهور. وبهذا التلخيص المكثّف تنتهي الإصلاحيّة في أبرز ثلاث خصائص لها؛ أنها لا تعيشُ أزمةً مع الشرعيّة، وليس لها مشكلة مع الدولة العصريّة، كما أنها منفتحة على الجميع، تحرص على استيعاب أقلّ الطاقات وأدناها.
في هذا الاسبوع قرعت مرجعية النجف الأشرف المشهد السياسي العراقيّ، بتركيز مستأنف على مبادئ عدّة، من منهجها الإصلاحي، هي باختصار؛ أن يكون العراق سيّد نفسه، وأن يحكمه أبناؤه، بمشروعية تستند فيها القرارات إلى إرادة الشعب، وفي خصلة بارزة متمثّلة في أن يكون الحكم رشيداً، والأهمّ من ذلك كلّه خاصّة بلحاظ المرحلة العراقيّة الحاضرة، هي ألا يكون للغرباء دور في قراراته، بكل ما يَحمله لفظ الغرباء من إطلاق من دون أي قيد أو محاباة أو مجاملة!