كسر القاعدة!

الصفحة الاخيرة 2020/01/13
...

 جواد علي كسّار
هيَّ ثقافة لم أعتد عليها؛ مديح الحكام والثناء عليهم، ولم أمارسها على مدار أربعين عاماً من العمل الإعلامي المتواصل من دون انقطاع؛ وعذراً مقدماً لهذه الذاتية الفاقعة!
اليوم مع رحيل السلطان قابوس (في السلطة: 1970 ـ 2020م) تطاوعني رغبة ملحة بكسر القاعدة، والعودة لإظهار بعض ما اختزنتَه من آراء عن حكام ورؤساء مضوا، أودعتها عقلي الباطن، أبدأ مع حافظ الأسد (في السلطة: 1971 ـ 2000م) فقد أعجبني فيه التحوّل الاقتصادي الإيجابي، الذي شهدته سوريا على عهده منذ منتصف الثمانينيات حتى وفاته، وجعلها بمصاف، بل أفضل من بلد نفطي ثريّ مثل العراق، مع أن سوريا لا تملك من ثروات النفط والغاز إلا أقلّ القليل، لكن ذلك حصل برأيي بعقل الأسد وحكمته، ومهاراته الشخصية الفائقة في إيجاد توازن داخلي، تحوّل لاستقرار سياسي مشهود، واحتواء مجزرة حماة بعزل شقيقه رفعت، إلى جواره توازن اقليمي ودولي وظّفه لصالح بلده؛ فهو مع الخليج ومع إيران، ومع روسيا وليس ضدّ أميركا، استوعب التحدّي التركي، واحتوى التهديد الصدامي وهكذا.
 عندما رحل وددت أكتب عنه عموداً، بعنوان: "قائد القادة العرب" شجعني على المضيّ في كتابته أقرب الأصدقاء وأخلصهم لي، بيد أني عزفت عنه ولم أقبل، التزاماً بقاعدة عدم مديح الحاكم، حتى وهو ميت!
لا أخفي إعجابي في حلق الأصدقاء ومحاورتنا الخاصة، بأنور السادات (في السلطة: 1970 ـ 1981م) فقد أعجبني تذويبه للناصرية، وتحويل أبرز كوارثها؛ أقصد به هزيمة 1967م، إلى فرصة نجاح في حرب تشرين الأول عام 1973م، ثمّ منهجه الواقعي في استعادة سيناء، بأقل قدر من الخسائر، بينما ابتلعت تل أبيب الجولان السوري والضفة الغربية والقدس الشرقية، ولم تجدِ العرب شيئاً، الثوريات العنترية والشعارات الفارغة الجوفاء، في استعادة شبرٍ من الأراضي المحتلة!
كنت أنظر باعجاب إلى مجمل سياسة الجزائر في العالم العربي، وما تتسم به من ثقل وهدوء وتوازن إيجابي محايد، جعلها محوراً لكثير من التسويات، وعنصراً فاعلاً في امتصاص الصراعات العربية الداخلية، والتقليل من الآثار السلبية لصدام المحاور. والجزائر لعبت هذا الدور على عهد هواري بومدين (في السلطة: 1965 ـ 1978م) والشاذلي بن جديد (في السلطة: 1979 ـ 1992م) قبل انتكاستها في حوادث العشرية السوداء، وانكفائها النسبي على ذاتها على عهد بوتفليقة، الذي تولى سلطة بلاده في سنوات عصيبة امتدت بين 1999 ـ 2019م.
تجربة الكويت في منطقة الخليج ابان السبعينيات وأوائل الثمانينيات، كانت تشبه إلى حدٍّ كبير تجربة الجزائر في هدوئها ووسطيتها، قبل أن تتمحور وتصطف إلى جانب صدام في الحرب العراقية ـ الإيرانية، لتستعيد شيئاً من حيويتها التوازنية، بعد الغزو الصدامي، لكن من دون ألقها السابق. تبقى سلطنة عمان تجربة متميّزة في مجمل أبعادها؛ في البدء من حيث هضم التضاريس المجتمعية لصالح هوية وطنية عمانية جامعة، ومن بعدها تجربة الرفاه الاقتصادي، ووضع عمان على خطّ الازدهار بدلاً من متوالية الفقر والتخلّف، يشهد على ذلك النموّ النجومي للناتج الإجمالي، الذي تصاعد من ربع مليار دولار قبل عقود إلى (80) مليارا مع وفاة قابوس، وهو رقم مهول حتى إذا أخذنا بنظر الاعتبار الاختلافات الشديدة في قيمة الدولار، وصرف العملة.
أخيراً وعلى مستوى السياسة الخارجية، لم نر في عواصم المنطقة من فاق حكمة العمانيين وعقلانيتهم، تدل على ذلك الأرقام القياسية لوساطاتهم وثقل هذه الوساطات؛ والأهمّ من ذلك الإبقاء على عمان خارج دوّامات الصراع، بعيداً عن مزالق الدم والدمار القاتل!.