جواد علي كسّار
في صميم الحديث عن إصلاحية النجف الأشرف، أشار بعض الأصدقاء لحاجة أفكارها إلى حامل إنسانيّ وهيكلي، من قبيل النخب والأحزاب، الحقيقة لا نقاش في حاجة أي فكرة أو منهج إلى حامل إنساني وتنظيمي، وقد بلغت التيارات الانقلابية والتغييرية الشاملة، ما بلغته من حضور مكثّف وتأثير عميق، من خلال نخبها وفاعليتها التنظيمية.
لقد ارتبطت الحزبية بالدولة الحديثة، وصارت واحدة من أهمّ مؤسّساتها وركيزة من أبرز ركائز وجودها، فلا نعرف دولة بلا حياة حزبية ونخب عضوية، ظاهرة أو ضامرة، خاصة عندما نأخذ بنظر الاعتبار المعنى العام للحزبية، من أنها اعتناق مجموعة لعقيدة واحدة، وحركة هذه المجموعة على نحوٍ منظم، تسعى من خلاله إلى تحقيق أهداف سياسية واجتماعية معينة، الحزبية عند دافيد هيوم مثلاً تنتعش من خلال البرامج، فما دامت هناك برامج تتوحّد من خلالها مجموعة إنسانية، فهناك بذرة لوجود حزب، ثمّ يأتي بعد ذلك دور التنظيم في إنتاج الحزب، على حين يرى موريس ديفرجيه في كتابه المرجع: «الأحزاب السياسية» أن نطفة الحزبية تنعقد ويولد الحزب، بمحض اتفاق مجموعة على عقيدة واحدة.
لذلك ميّزنا في الحياة الحزبية بين الأحزاب الظاهرة والمضمرة، فهناك من يقول بأنه لا يعيش الحزبية ولا يمارسها، بل هو تيار أو جماعة أو كتلة أو اتجاه وحسب، وهو في الحقيقة حزبي حتى النخاع، يعيش الحزبية بعمقها الحيوي، الذي تمثله العصبية لفكرة أو قضية أو رمز أو لها جميعاً، بل ثمّ من يدّعي أنه مستقل، وكلّ ما في سلوكه ومواقفه يؤشّر إلى حزبية معمّقة، ففي السعودية مثلاً لا وجود للأحزاب بالمعنى التنظيمي، لكنها موجودة بالمعنى العضوي، ومن خلال المواقف والممارسات، فالاتجاه السلفي حزب، والاتجاه الليبرالي حزب، وهكذا إلى بقية المكوّنات في الحياة السياسية والاجتماعية للناس.
بعد هذه المقدّمة نعود إلى إصلاحية النجف الأشرف، لنسجّل بوضوح أنها بحاجة ماسّة إلى الحامل، بيد أنها ليست بحاجة إلى حزب أو نخبة حركية، بل إلى خطّ مفتوح مع الدولة والمجتمع، فتكون الدولة دولة الإصلاح، ويكون المجتمع كلّه مادّة مشروعها، ويحافظ الجميع داخل هذا الفضاء الإصلاحي المفتوح، على تمذهبه الديني والسياسي، ويبقى على انتماءاته، لأن الإصلاحية ببساطة وعلى خلاف التغييرية، لا تملي شروطاً، ولا تريد أن تتحوّل إلى حزب أو رقم يُضاف إلى بقية الأحزاب، ولا ترغب في اختزال قاعدتها الإنسانية، بنخبة معيّنة من النخب، لأن الدولة العصرية هي مشروعها، والناس جميعاً هُم مادّة عملها. إذا أردت أن تقتل الإصلاحية وتغتالها، وتعطّل مفعولها فحوّلها إلى نخبوية مغلقة؛ وأن أقصر طريق إلى تدميرها هو تحويلها إلى حزب، وهذا ما ينطبق تماماً على إصلاحية النجف الأشرف، إذ لنا أن نتخيّل مآل السيستانية إذا تحوّلت إلى حزب، يدافع عن نفسه وشأنه ومركزيته، ويتدافع في الساحة مع بقية الأحزاب؟!
لا يحتاج العراق في لحظته الحاضرة إضافة رقم من الأرقام الحزبية، بل قد يرى البعض أن فيه فائضا من الأحزاب، إنما هو بحاجة إلى مظلة محفزة للطاقات جميعاً، تدفع الجميع باتجاه العمل، عبر توظيف جميع الكيانات الموجودة في الفضاء الوطني، خاصة حينما نأخذ بنظر الاعتبار أن الأحزاب التغييرية، في الاتجاهات الكبرى الثلاثة؛ أقصد بهم اليساريين والإسلاميين والقوميين، قد جمّدت مشاريعها الانقلابية، لصالح المنهج الإصلاحي، ورؤيته القائمة على الدولة العصرية والحياة المزدهرة الرافهة، من خلال الهوية الوطنية المحصّنة عن تدخلات الغرباء، وفي ظلّ مرجعية الشعب وخياراته في النظام السياسي.