حسن العاني
أودُّ الاشارة ابتداء الى ان العديد من مفرداتنا العراقية المحلية، يصعب فهمها من المستمع او القارئ العربي بسبب خصوصيتها (العامية) التي لم تُحوّر عن اللغة الفصيحة مثل (ﮔام- اي قام) او (إجه – اي جاء)، او انها ليست قريبة من الفصحى.. من تلك المفردات العامية التي يصعب فهمها من غير العراقي، مفردة (الشقه – بكسر الشين) وهو المزاح، و(فلان يتشاقه) اي يمزح...
في كانون الاول 1985، تم الحاقي بأحد قواطع الجيش الشعبي، وتوجهنا الى منطقة قاحلة اقرب ما تكون الى صحراء مهجورة ولكنها ذات ارض سهلية متموجة اسمها (قاطع الطيب) في منطقة تدعى (الزبيدات)، وتقابلنا في الطرف الاخر ثلاثة تلال مرتفعة نسبياً ومتجاورة يطلقون عليها اسم (الحلم – بضم الحاء وفتح اللام – وهي جمع حلمة).. المهم في الامر، وبعيداً عن هذه التفاصيل: إنها (الجبهة) بمعنى انها الحرب التي كنا نراها في الافلام، ثم بدأنا نسمع اخبارها في البيانات العسكرية وشهداؤنا وقتلاهم واعداد الاسرى والراجمات والنمساوي والصواريخ والقنابل العنقودية والمنفلقة وموطئ القدم و...
الى بضعة اسابيع قبل وصولنا هذا المكان الذي يسكن فيه الموت معنا، كنا نتلذذ بطعم الموطا والجلوس على ضفاف النهر مع حبيباتنا.. فجأة .. بدون مقدمات .. الان ادركنا ما هي الحرب، إنها ليست فيلماً ممتعاً لا يموت فيه البطل ويعود منتصراً الى احضان خطيبته او حبيبته، بل هي هذه الحياة الجديدة التي نعيشها حين تمر بنا ساعة تعادل خمسين عاماً، وتأخذ خمسين عاماً من اعمارنا، وحيث يبلغ الخوف منا مبلغه، لا ندري في اي ملجأ نرمي (أرواحنا)، واية خوذة نعتمر، وأي تضرع الى الله نتضرع، ومن حولنا يتساقط وابل من الصواريخ ومقذوفات المدافع والدبابات وآلاف الشظايا، كنا نسمع صفيرها ودويَّها يتفجر في الرأس ويقتلع القلب، وهنا وهناك ترتفع الاتربة الى عنان السماء تاركةً الارض تفتح بواباتها المغلقة لاستضافة مزيد من الحفر..
استاذ ابو لؤي هكذا كنت اخاطبه بكنيته احتراماً للستين من عمره ولمنزلته التربوية، فهو مدرس في احدى الثانويات، ينتظر كل يوم بخوف شديد وصريح ومعلن– ربما كنا اشد خوفاً منه، ولكننا نتظاهر بالتماسك – عودة (عادل) احد زملائنا، وهو المكلف بإحضار (الموقف العسكري) يومياً من مقر اللواء (44) على ما اذكر (قوة قيس)، وكان قاطعنا يعمل بامرة هذا اللواء.. والموقف الصادر اما ان يكون (اعتيادي) أو (الانتباه مع الحيطة والحذر) أو (انذار جيم واتخاذ اعلى درجات الحيطة والحذر، وعدم مغادرة الملاجئ)، وكان زميلنا عادل من باب المزاح يقول (اليوم انذار جيم) وهو الامر الذي يرعب (أبو لؤي) رعباً حقيقياً... عندها يضحك عادل ويطمئنه (والله العظيم عمو ابو لؤي... اتشاقه وياك.. الموقف طبيعي)، وهنا يتنفس الرجل الصعداء ويقول له (حتى بالشقه ما أريد أسمع انذار جيم)!
لي زميل صحفي يناصر الحكومة بتعصب غريب، ويغضب اذا قال له احدنا انها اخطأت، حتى لو اعترفت هي بخطئها، وكنا نناكده ونقول له ان فشل الحكومة في اكثر الملفات يقتضي منها ان تكون شجاعة وتقدم استقالتها، فتثور ثائرته ويرد علينا (حتى بالشقه ما أقبل أحد يتحدث عن الاستقالة) وكنا نضحك ونردُّ عليه: اطمئن لان الحكومة لا تمتلك مثل هذه الشجاعة..!!