جواد علي كسّار
بعض خصائص المشهد الثقافي والفكري في العالم العربي والإسلامي، أنه يعيش على «الضجّات» أو «الخضّات»، من ذلك مثلاً ما حصل عام 1990م، حين أصدر السوري محمد شحرور، كتابه الضخم: «الكتاب والقرآن.. قراءة معاصرة».
من عناصر الضجّة يومها في ذلك الإصدار، هو اختيار القراءة العصرية كمدخل لفهم القرآن الكريم، وأن هذه القراءة تصدر من مهندس وليس من عالم دين أو مفكر إسلامي، وأن إصداره هذا هو الأوّل، إذ لم نكن نعرف شيئاً عن محمد شحرور قبل هذا الكتاب، ولم نقرأ له كتاباً أو بحثاً أو حتى مقالاً، كما كان من عناصر الضجّة هو الحجم الضخم للكتاب، إذ تجاوزت صفحاته السبعمئة من الحجم الكبير وبطباعةٍ مضغوطة، بحيث يمكن أن يتحوّل إلى مجلدين ضخمين، أضف إلى ذلك تعدّد طبعاته بمدّة قياسية رغم ضخامة حجمه وارتفاع ثمنه، فقد طُبع مرتين عام 1990م، ثمّ ثالثة ورابعة مطلع عام 1991م، وسادسة في آذار 1994م، ولست أعرف عدد طبعاته الآن، لاسيما بعد أن اشتهر مؤلفه الذي رحل عنّا قبل أسابيع، وتحوّل إلى اسم فكري مشهور، خاصّة في حقل القرآنيات المعاصرة،
ذات الطابع التأويلي.
لقد جبّت قرآنية شحرور تخصّصه العلمي بالهندسة المدنية، وأنست خلفيته الدراسية في الاتحاد السوفياتي على مدار ست سنوات، ثمّ دراسته في دبلن، حتّى يخيّل لمن كان يُتابعه في أحاديثه التلفازية ودروسه ومحاوراته عن القرآن، أنه إزاء متخصّص بالقرآنيات منذ نعومة أظفاره.
قد نستطيع أن نضيف إلى عناوين الضجّة، عنصراً آخر، يرتبط هذه المرّة بالقصة الماتعة لولادة هذه القراءة الضخمة، كما حدّث عنها المؤلف نفسه.
فقد ذكر أنه انشغل أوّل مرّة بالفكرة بين 1970 ـ 1980م وهو في ايرلندا، لكن من دون نتيجة، لينعطف إلى المرحلة الثانية عبر لقاء صديقه عالم اللسانيات السوري جعفر دك الباب، الذي تعرّف عليه في الاتحاد السوفياتي وأخذ عنه مبادئ المعالجات اللغوية لألفاظ القرآن الكريم، وقد دامت هذه المرحلة حتى عام 1986م، لينتقل بعدها إلى المرحلة الثالثة، بتقديم الصياغة الأخيرة للكتاب ووضع اللمسات النهائية عليه عام 1990م.
الحقيقة أن لمشاريع إقحام المنهجيات الحديثة في العلوم الإنسانية، على فهم القرآن الكريم؛ خلفية عريضة تعود إلى أيام طه حسين وتلميذه محمد أحمد خلف الله وأضرابهما، لكنّها تحوّلت إلى موجة راحت تقتحم الدراسات القرآنية، مع كتابات محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وحسن حنفي وطيب تيزيني ومحمد شحرور ومحمد عابد الجابري وغيرهم.
ما دمنا نتحدّث عن كتاب شحرور بوصفه أحد عناوين الضجّة، فقد أثار من حوله نقاشاً، احتدم في الساحة المعرفية بين تيار ناقد بل رافض وساخط وأحياناً مكفّر، وآخر مؤيّد مرحّب يتبنى أطاريحه من دون تحفّظ.
أشير إلى معلومة قبل أن أنتقل إلى الخاتمة، تفيد إطلاعي على مشروعين قرآنيين جديدين، وإن وقفا على طرفي نقيض، إلا أن العنصر المشترك بينهما، أن كليهما من العراق، الأول للباحث محمد كريم الكواز، والآخر لمهدي الحسني.
أما الخاتمة، فقد دخل رجل على الإمام جعفر الصادق، يسأله: «ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدرس إلا غضاضة؟» فأجابه عليه السلام، لأن: «الله تعالى لم يجعله لزمان، ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كل زمانٍ جديد، وعند كلّ قومٍ غض
إلى يوم القيامة»!