جدل المعرفة والسؤال!

الصفحة الاخيرة 2020/05/08
...

 جواد علي كسّار
 
للمعرفة مفاتيح والسؤال أحدها “اسأل تعلم”؛ وبالسؤال تنفتح مغاليق العقول وتُستثار دفائنها “القلوب أقفال مفاتحها السؤال” كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
ما يبديه تاريخ الفكر الإنساني وشوط انفتاح الإنسانية على المعرفة، أنّ السؤال لم ينفكّ عن الركب البشري منذ أن عرف الإنسان ذاته ووعى وجوده. والسؤال على ضروب؛ منه الأسئلة الثابتة التي تترافق مع وجود الإنسان وتعايشه. وهذه وإن كانت ثابتة إلا إن لها مراتب لا تنتهي، فهي كلّ عصر في لبوس ومرتبة، ومن ثَمّ فإن كلّ جواب يأتي متناسباً مع المرتبة الوجودية للسؤال، وبتجدّد الأسئلة تتجدّد الأجوبة.
مثالها الأسئلة الدينية التي ترتبط بالخلق والوجود وفلسفة التكوين ودور الدين، وتلك التي تتّصل بالغايات الكبرى للحياة، وما تؤول إليه حضارة الإنسان ومصيره بعد الموت.
من الأسئلة ما يرتبط بكلّ مرحلة من مراحل الوجود الإنساني على حدة، وطبيعة ممارسته الحياة في تلك المرحلة من تاريخه وسلوكه ودرجة تطوّره المدني ومستواه المعاشي. مثالها الأسئلة العلمية التي تتغيّر من عصر إلى آخر؛ وتلك التي ترتبط بالإدارة التفصيلية للحياة الإنسانية مدنياً، على مستوى وسائل العيش والتنظيم الاجتماعي والسياسي، وغير ذلك من المناطق المتغيّرة على خطّ الوجود الإنساني.
من البديهي جداً أن ينفتح السؤال الإنساني على فضاءات متعدّدة بتعدّد الحضارات الإنسانية، وتنوّع الثقافات والأديان التي تسهم في بناء وعي الإنسان وتغذّيه، بمضامينها العقائدية والفكرية ومفاهيمها النفسية وعاداتها السلوكية. يعدّ السؤال الديني بضروبه المختلفة من ثوابت الوجود الإنساني، فما دام الدين ثابتاً ملازماً للإنسان منذ وجوده على هذه الأرض، فكذلك كان السؤال الديني في حياته. وما تغيّر هو مستوى السؤال نوعياً تبعاً لنموّ الوعي الديني ذاته، وتطوّر الحياة وما يمليه ذلك من تجدّد الأسئلة من دون أن يطرأ ما ينال من الهوية الدينية للسؤال. فلا نعرف مرحلة من مراحل الحياة الإنسانية في الماضي أو الحاضر، ألغت في مستوى الوعي الذي بلغته الحياة، السؤال الديني. بل بالعكس فمع كلّ نموّ في الوعي وخطوة إلى الأمام على خطّ التقدّم الإنساني، تتجدّد الأسئلة الدينية وتنهمر كالسيل، تحيط بالإنسان وتطلب الإجابة المعقولة على غوامضها واستفهاماتها. وفي الحديث الشريف: “من عَلِم أحسنَ السؤال” مما يشير إلى الترابط بين النموّ المعرفي والدقّة في توجيه السؤال، وليس إلغاءه. إذا انتقلنا من المفهوم إلى الواقع فليس هناك ما يدعوننا لإنكار كثافة السؤال الديني، فهذه الكثافة علامةُ عافية ودليلٌ على وجود الوعي. غاية ما في الأمر هناك شؤون ترتبط بالسؤال والسائل والمسؤول. فأما السؤال، فيحتاج إلى وضوح ودقّة في الصياغة، وفي الحديث الشريف: “من أحسن السؤال عَلِم”. كما هناك وجهة أخرى للقضية يلخّصها الحديث الشريف: “من عَلِم أحسن السؤال”. إذاً، هناك بحسب التعبير المعاصر، جدلٌ بين العلم والسؤال، فكلّما أتقن الإنسان السؤال، زاد علمه، وكلّما زاد علمه واتسع، أحسن السؤال وأتقنه. وبشأن السائل عليه أن يبادر للسؤال “سل عما لا بدّ لك من علمه، ولا تعذر في جهله” وألا يحجم خجلاً أو مهابة أو لخشونة يتقمّصها بعض المسؤولين.  من نافلة القول أن لا يكون هناك حظر على الأسئلة، فالمنع دليل التخلّف وغياب الوعي وهيمنة السطوات القمعية.