الهروب الصعب (2 – 2)

ثقافة 2020/06/05
...

د. فلاح الحسن
 
من حربٍ إلى أخرى ومن قتلٍ إلى آخر ومن حصار الجسد إلى حصار الروح، يمتدُّ بي العمر على سكة لم أحدد أو أختر قطارها ولا محطاتها. وجودي فيها كان أشبه بالحلم أنتَقلُ من مشهدٍ إلى آخر بأيادٍ خفيَّة. كنا ننتظر أنْ نرى ضوء الشمعة الموعود في آخر الطريق. نركض تارة ونهرول أخرى ونحث السير ابتغاء حلم سمعنا عنه ولا نعرف تفاصيله. أنهكتنا المحطات المعتمة ورائحة الموت التي ملأت زوايا الروح. لم يكن للمنطق مكان، خطوات تبعتها خطوات ومسافات لحقتها مسافات ساقتني إليها الأقدار بغير قرارٍ مسبق. كان جوازي الأول ورحلتي الأولى التي بدأت ولم تنته حد اللحظة. ما زلتُ أسيرَ تفاصيلها الصغيرة، فضلاً عن محطاتها الفاصلة متنقلاً بين هذه الدولة وتلك وبين هذه المدينة التي ترميني الى حضن نظيرتها بعد أنْ تركت في ذاكرتي لونها وسحرها وملأ رئتي غبار شوارعها.
الخيار الوحيد
الهروب كان الخيار الوحيد من الوجع الصامت، من مطاحن الموت في الجبهة التي كانت تصهر ملامح الشباب وتقتل ضحكاتهم وابتسامتهم البريئة وهم ينتظرون لحظات لقاء الأحبة ويحلمون بدفء مشاعرهم عندما تلتقي العيون وتتصاعد نبضات القلوب المشحونة عشقاً. رائحة الموت تتغلل بين أزقة المدينة الفقيرة، تمزق أحشائها تتفنن بقتل البسمات على الشفاه وتحويل الضحكات التي تملأ زوايا البيوت الى آهات وأنين يصعد مع رائحة الفجر إلى السماء. حتى السماء لم تكن مثل كل السموات، كانت مزيجاً من العويل المر تحت عباءة الليل البارد والدماء المتدفقة بين حبات الرمل تروي براعم الموت العبثي. حكايات الموت بيننا لا تنتهي وتأخذ اشكالاً متنوعة تُعرضُ على أرصفة المدن. 
للحزن أجراس وأعراس عندما يصعدُ صوت الناعي إلى عنان السماء ليعلن عن انتقال أرواح أبنائنا وأولادنا الى الحياة الأُخرى. يطرق الأبواب والشبابيك كل صباح ليمزق قلب هذه ألام وتلك الحبيبة وتخرج معه شهقات لهفة لقاء الحبيب الذي طال انتظاره. وللموت في بلادي لون ورائحة فيأخذ لونه من تقاسيم الوجوه وسمرتها وتربة الأرض التي تعفرت بدماء عشاقها وتشعر برائحته منتشرة على سطوح المنازل المصفرة والمتصدعة والازقة حيث يتجمع بعض الفتيان ينتظرون حبيباتهم وهن ذاهبات للتسوق مروراً بشارعنا الضيق وبيوته التي التصقت بعضها ببعض خوفاً من ذاك المارد الذي يهز أركان المدينة كلها بصيحاته وهو يتوعدهم بموت قريب. 
 
معسكرات التدريب
 تستمر الحافلة بسيرها وسط الصحراء التي لا يحدها النظر وأنا ابحلق في عمقها المجهول واللامنتهي. أخذ البعض يأكل ما جلبه معه في حقيبته وبدا على الوجوه شيء من التعب فنحن أقرب إلى الحدود منا إلى عمق العراق الموغل في الألم. أعيد ناظري إلى الصحراء التي بدأتُ أتقاسم معها بعضاً من ذكرياتي. 
أخذتني الصحراء ووهجها الذهبي وتلك الدوامات الهوائية إلى المشهد نفسه في معسكر التدريب العسكري، وها أنا أرى الخيام الممتدة على رمال معسكر “الدجيل” قرب مدينة الكوت، للتدريب الصيفي. كنا طلبة في مقتبل العمر مقبلين على الحياة حالمين بالحصول على التعليم لنبدأ مرحلة جديدة في مسيرتنا. لم يمر بخلدِ أحدنا أن تظمنا معسكرات الإعداد للموت المبكر. كان الوضع على الجبهة يزداد تعقيداً خاصة بعد أن امتدت الحرب لسنوات وأكلت خيرة أبناء البلد. لم يعد أمامهم الا الفتية ليكونوا وقوداً جديداً للحرب التي فغرت فاها لتأكل المزيد من لحومنا الطرية الناعمة الغضة. 
كنت في السرية الثانية الفصيل الأول كنا الأقرب الى الشارع الترابي المحاذي لساحة التدريب ثم سور المعسكر وبعده الشارع المؤدي الى مركز المدينة. البعوض ليلا هو المؤنس الوحيد الذي يدور حولنا، يبحث عما يسد به الرمق من دمنا النقي الذي يملأ الاوداج والجباه. لم يصدق حينها أحدٌ منا أنهم سيرسلوننا إلى الجبهات. كانت التساؤلات كثيرة ولا جواب شاف لها، هل وصل النقص العددي في الجيش إلى أن يتخذوا قراراً بزجنا في أتُون هذه المطحنة؟ لم يكن باستطاعتنا أن نناقش أي من هذه التساؤلات جهراً خوفاً من أن يكون هناك من يكتب للخلية الحزبية ما يدور من حديث! 
لم تكن هذه تجربتي الأولى في مراكز التدريب العسكري فقد شاركت في أحد المراكز نهاية سنتي الأخيرة في الإعدادية. كانت ارض المعسكر عبارة عن أرض زراعية يحدها النهر من جانب ومن جانب آخر الشارع المؤدي إلى وسط المدينة. البعوض في كل مكان، يأتي مع صلاة المغرب ليمتص ما يحتاجه من دمنا ولم نكن نمتلك أية وسيلة دفاع سوى حك الأماكن التي يلسعنا فيها. قررت أن أعود إلى البيت قبل يوم من الاجازة الأسبوعية، حيث كنا نعود إلى بغداد كل خميس لنقضي ما تبقى من نهاره ويوم الجمعة في بيوتنا. وبدأت أبحث عن رفيق يشاركني أفكاري وطريقي فذهبت إلى صديقي علي هو الوحيد الذي كان يمتلك مرهماً طارداً للبعوض ولا يعاني من لسعاته. 
- علي، هيا نذهب إلى بغداد اليوم ونعود يوم السبت إلى المعسكر
- لا، لا أريد، سأبقى هنا 
- كما تحب يا علي
رجعت إلى مكاني في الخيمة وكان الوقت قريب المغرب. وعندما حل الظلام أخرجنا ما ننام عليه خارج الخيمة بسبب الحرارة المرتفعة أيام الصيف الحارقة. حاولت أن أنام بعد أن ارتديت كامل ملابسي هرباً من البعوض ووضعت المنشفة على وجهي ولم يبق جزء من جسدي ظاهرا. 
بعد أن تجاوز الليل نصفه، سمعت صوتاً يهمس في اذني:
- انهض، قررتُ أن أذهب معك
المرهم الذي يستخدمه علي لطرد البعوض قد نفد ولم يستطع النوم بوجود هذا الكم الكبير من البعوض الذي لم أرَ بحجمه من قبل. أنه لا يشبه بعوض المدينة أشعر بلسعاته مخترقاً الملابس التي نرتديها محدثاً حكةً جلديةً لا تُطاق مع انتفاخ في مكان اللسعة يصعب معها النوم مهما حاولت إلى ذلك سبيلا. جاء قرارُ علي المفاجئ بعد معركةٍ فاشلةٍ مع الحشرات التي أقضت مضجعه وحولت ليله إلى حكةٍ مستمرةٍ طالت أغلب أجزاء الجسد. كان الصراع يومياً، فبعد نهارٍ حافلٍ يبدأ مع أول خيوط الفجر بالتدريب الشاق المتزامن مع أشعة شمس تموز اللاهبة في كبد السماء الصافية، نعود بعدها إلى الخيمة الخالية إلا من حقائبنا الخاوية. رغم كل ذلك كان للمزاح والنكات التي تغطي الخواء الداخلي والشعور باللا جدوى وعبثية القرار الذي سيلقي بنا في محرقة الموت. كنا كخراف العيد، يشترونها حملاناً صغيرةً ويطعمونها جيداً لتكبرَ ولتُساق بعد ذلك للجزار. 
صعبٌ جداً أن تجدَ أحداً تبثه همومك أو ما يدور في ذهنك من أفكار، فانت لا تضمن من حولك، فهناك من يتفنن في نقل الأخبار للحصولِ على مكسب مادي أو منصب إداري أو ترقية في سلم الدرجات الحزبية. فكان الصمت هو وسيلة الدفاع الموثوقة أو الهروب للكلام عن أمور هامشية بعيداً عما يجري في البلد. 
صوت صديقي أعادني من معسكر تدريب الطلبة إلى الحافلة وهو يقول:
- أعتقد أننا تجاوزنا أكثر من نصف الطريق؟
- لا أدرى بالضبط، فأنا لم أزر مناطق العراق الغربية إلا مدينة “هيت” التي يقع فيها المعسكر الذي التحقت به لأداء الخدمة الإلزامية في الجيش. 
التحقت بالجيش بعد إكمال دراستي الجامعية بعد شهر من اقتحام الكويت. كانت بداية النهاية لكل ما تبقى. أزمة جديدة أدخلت البلاد في معترك لم تعهده من قبل، حرب وحصار استمر 13 سنة.
في صباح يوم من أيام آب وبينما كنت أعمل في بيتنا بعد أن قررنا إعادة بنائه، مر أحد الأصدقاء وقال لي بعد تحية الصباح:
- هل تعلم ما حدث اليوم؟
- لا، ما الذي حصل؟
- دخل الجيش الى الكويت
- كيف؟ ولماذا؟ ما الذي جرى؟ لم أكن وقتها من متابعي الأخبار السياسية، فكل ما تتحدث عنه الإذاعات المحلية هو عن شخص الرئيس وما يقوم به من نشاطات وزيارات والقاء الخطب التي أصبحت عادة شبه يومية. لم أستوعب حينها حجم الكارثة التي حلت بنا ولا مدى ارتداداتها التي ستؤثر في المنطقة بأكملها وعلى العراق بحاضره ومستقبله.
تم إرسالنا في البداية إلى الكلية العسكرية الثانية لنتخرج منها ضباطاً في الجيش، لكني عملت جاهداً على الفشل في الاختبارات الأولية وبحثتُ عن أحدِ المعارف في اللجنة المشرفة حتى أضمن الفشل فيها. ان أكون ضابطاً ذلك يعني قتلاً لكل أحلامي وفقدان ذلك الجزء اليسير المتبقي من حريتي. بعد نجاحي في التهرب من الكلية العسكرية تم سوقي إلى معسكر تدريب “هيت” في مدينة الرمادي غرب بغداد، التي تجازونا حدودها قبل قليل. 
أنهينا فترة التدريب الأساس لمدة ثلاثة أشهر وحان الوقت لتوزيعنا على صنوف الجيش المتعددة. وفي صباح شتوي بعد التعداد، كان الايعاز بالتفرق، لكننا تجمعنا في أحد الساحات بعيداً عن أنظار الضباط يوم الخميس، تبادلنا النكات المغطاة بالحزن حول قرب انتهاء المهلة التي أعطتها قوات التحالف للانسحاب من الكويت، قال أحدنا مازحاً:
- لننعم بآخر ساعات السلام قبل الحرب، وبدأنا الرقصَ والضحكَ والقفزَ الى الأعلى وإلى اليمن تارة وإلى الشمال أخرى. لا نعي ما نفعل، هل هو الحزن والألم الذي يغشى العيون ويغسل الحدقات وينزل إلى الصدور ليقتل آخِر ما تبقى من أمل في صباحات تغتسل بأشعة الشمس الساقطة على الورود الندية في باحات الوطن المغيب. كانت تشبه رقصات الموت وارتعاشات أطراف الجسد الأخيرة بعد أن قطعت سكين الذباح أهم شرايين الحياة! رقصات لتوديع الزمن الضائع في وطن غاب عنه الفرح وتقرحتْ مفاتنه وانتشرت بين ثناياه معالم الموت البطيء. لم يكن انتظارنا طويلاً فبعد أسبوع تقريباً امتلأ المكان بأصواتِ الانفجارات وهديرِ الطائرات المغيرة من كافة الأنواع. كنا خارج المعسكر أثناء القصف، ننقل آخِر ما تبقى من معداتٍ وأمتعةٍ شخصيةٍ إلى المكان البديل الذي يبعُد كليو مترات قليلة عن المعسكر. سألت أحد الناجين من القصف بعد أن التحق بنا:
- كيف هي الأوضاع خلفك؟
- بصوت مرتجف يغالبه بكاء صامت مرير ومحيا أقل ما يقال عنه أنه منكسر حد اللعنة وخطوات تشبه إلى حد كبير محاولة جرِ شيء ثقيلٍ لا يقوى على حملهِ جسد: استشهد محمد وعلي وآخرون لا أعرفهم لأنهم خريجو كليات أخرى. 
كان الجنود في المعسكر من خريجي الكليات الإنسانية تقريبا، لذلك جميع من سقط في الانفجار كان طالباً قبل أيام معدودات من الزمن، حالماً بمرحلةٍ جديدةٍ في الحياة أو بلقاء حبيبة، أو أن يجد عملاً ليبدأ معه رحلته المقبلة. لم ننعم بفرحةِ أنتهاء الحربِ مع إيران حتى إغتال اجتياح الكويت جميع أحلامنا وكل ما نخطط له! كان القصف موجعاً مؤلماً لم يفرق بينا، لم يسأل من أي المدن اجتمعنا، لم يسال عن اختصاص كل منا أو عن معدله وترتيبه على دفعته. هذه الأمور كانت محور أحاديثنا المسائية بعد التدريب، كانت الدماء ندية حمراء قانية تصعدُ الى السماء متجاوزةً كلَ الأعراف وقواعد الفيزياء فكلُ ما يسقط يتجه للأسفل إلا دماءنا فأنها تصعد إلى الأعلى. 
كان ينظر أحدنا للآخر من خلال الدموع متسائلا: هل هناك أحد مفقود لم يعُد لحد الآن وما زال تحت الأنقاض بعد أن اخترقت صدره العاري شظية أو سقط عليه سقف المكان؟
كانت الأوامر تقتضي حفر خنادق جديدة على أرضٍ مرتفعةٍ تطلُ على نهرِ الفرات، للملتحقين الجدد بالمعسكر. كانت الأرض صلبة عصية على المجرفة، كأنها تقول لي: 
مر علي الكثيرون لم ينالوا مني وابتلعتهم وهم الآن تحت قدميك حولت جباههم المتفاخرة وانوفهم وأفواههم إلى ذرات تطأها الاقدام، فلا تحفل بما يدور حولك الآن فهو إلى زوال طال الزمن ام قصر. 
أكثر ما كان يؤلمني هو رؤية الطائرات تحومُ فوق مياه الفرات بتحدٍ واضحٍ، وكأنها تخاطبنا: هذه أنا أين سلاحكم الذي كنتم تهولون أمره وتوعدون وترعدون؟ ولا أحد يتعرض لها فهي خارج مدى الأسلحة المتوفرة التي تعود لسبعينيات القرن الماضي في أغلبها، وأي محاولة من هذا النوع ستجلب الويل والثبور للمكان الذي انطلقت منه، لأنها ستكشف المكان للطائرة التي ستستهدفه بنيرانها بعد دقائق معدودات. 
ينتابني شعور غريب مزيج بين الغضب والالم، بين القلق والحسرة. 
وفجأة أعود من شاطئ الفرات إلى الحافلة على صوت عادل:
- سنصل بعد قليل الى الحدود هيئ جوازك، ولا تقل لي أنك نسيت أين وضعته كعادتك.
 ترجلنا من الحافلة نحمل جوازاتنا، ووقفنا في الطابور لنحصل على تأشيرة الخروج. تنعكس على وجوه المسافرين قساوة الحصار وكيف نخر الاجسام والنفوس وغيّر من طباعهم. الكل يحاول أن يتخلص من هذا الكابوس المطبق بخناق الجميع. تحول الكثير من المسافرين الى مهربين وباختصاصات مختلفة، منهم من أخفى علب السجائر داخل حقائبه وآخر الستر الجلدية وثالث عدداً من الحُلي وتفنن الباقون بطريقة اخفاء ما حملوه من بضائع ومواد متنوعة. أما سواق السيارات فكان اختصاصهم تهريب الوقود، لذلك تجد في احيان كثيرة سائقاً مع راكب واحد أو اثنين ومع ذلك قاد حافلته كل هذا المسافة ليبيع ما جلبه معه من مواد خلف الحدود ليكسب أضعاف ثمنه بسبب فارق العملة الكبير.
لم يكن معنا شيء نخاف عليه، حبات من التمر ورغيفان من خبز أمي كي لا نجوع في الطريق. القلق يساورني فهذه المرة الأولى التي اجتاز فيها الحدود، لم أرَ إجراءات الخروج سابقاً. هل سيجدون سبباً لإرجاعنا إلى بغداد، هل سنعبر إلى الجانب الآخر من الحدود، هل... وهل؟ كثيرة هي التساؤلات التي تدور في ذهني. صديقي كان أكثر مني قلقاً بسبب ماضيه وتجربته السابقة مع الأجهزة الأمنية ومكوثه في السجن بسبب هروبه إلى سوريا وإعادته لاحقاً. صور الرئيس في كل زويا المكان وبوضعيات مختلفة: مع السيجار الكوبي وأخرى بدونه، وواحدة بزيه العسكري وأخرى بملابس مدنية، وخامسة وهو يطلق النار من بندقيته. تُحاصر الصورُ المكانَ كما يُحيط السوارُ بالمعصم، لا تجد متنفسا من كثرتها وكأن البلد ليس فيه شيء آخر سواه، وتم اختصار حضارته وتاريخه لأكثر من 6 آلاف سنة بشخصه فقط. 
يجلس خلف النافذة شخص متجهم كث الشوارب، نزلت على جانبي فمه لتشكل نصف دائرة بقسمات حادة يقلب صفحات الجواز يمعن النظر في الصورة ويركز على موافقة الخروج المجانية وقد كُتب عليها “دراسة على النفقة الخاصة”. تشعر وكأنه يطلق سراحك مرغماً وليس يضع ختم تأشيرة الخروج على الجواز. 
جدارية الرئيس الكبيرة تنتصب في منتصف الساحة، تتوسط طريق الذهاب والإياب وتشرف على المكان كله، تشعر وكأنه يراقب كل القادمين والمغادرين مقهقهاً: 
- مصيركم بيدي، لا مفر مني وستطالكم أجهزتي في أي مكان كنتم، لم ولن يكون بُعد المكانِ عائقاً وستقفون في حضرتي متى ما أشاء وأرغب.
في هذه الأثناء تتداعى الى ذاكرتي عمليات اغتيال المعارضين السياسيين التي جرت في بلدان مختلفة، وكيف اخترق الرصاص جباههم وصدورهم وأسكت أصواتهم وأنهى أحلامهم بالتغير الذي كانوا ينشدون.
رجعت الى الحافلة غير مصدقٍ أني سأعبر الى الضفة الأخرى من العالم.
دار محرك الحافلة بعد أنْ اكتمل عدد المسافرين وبدأنا نتحرك باتجاه الجانب الآخر من الحدود بعد أنْ جلسوا في مقاعدهم. ألتفت خلفي، ألقي نظرة وداع أخيرة، أرى جدارية الرئيس مرة أخرى فهي الأبرز والأكبر حجماً، الصورة فيها تختلف عن مثيلتها في جانبها المعاكس، وفيها يَحملُ بندقيته عالياً وكأنه يتوعد المغادرين:
- سأبقى معكم في صحوتكم والمنام، إياكم وغضبي.
تجتاز الحافلة السور الفاصل وتدخل المنطقة المحايدة بين الحدين لتصل بعد دقائق إلى البوابة الأخرى من الحدود.
الخطوة الأولى وبُعدٌ آخر.