منطق السلطة!

الصفحة الاخيرة 2020/06/05
...

 جواد علي كسّار
في شهر كانون الثاني عام 1977م اجتاحت مصر انتفاضة اشتهرت بانتفاضة الخبز، جاءت بعد رفع السلطات لأسعار الخبز، فردّ عليها نظام السادات بوصمها أنها انتفاضة حرامية، وأنها من تحريك الشيوعيين وعملاء الاتحاد السوفييتي.
في صيف السنة نفسها لكن في إيران انطلقت انتفاضة شعبية ضدّ نظام الشاه، سارع الى نعتها بأنها مؤامرة لما اطلق عليه تحالف «توده وارتجاع سياه» ويقصد به تحالف اليسار والرجعية الدينية، ولم يكفّ الشاه عن هذه التهمة حتى بعد أن فقد عرشه في شباط 1979م، إذ ظلّ يعتقد أنَّ مؤامرة من الخارج هي التي أسقطته!
وكما حصل في مصر عام 1977م، تكرّرت انتفاضات الخبز في المغرب عام 1984م، وفي الجزائر عام 1986م، وفي مدينة معان بالأردن عام 1989م، ثمّ تجددت عام 1996م، وكما كل مرّة كانت التهمة جاهزة، والإعلام الرسمي لهذه الأنظمة معه جيوش من المثقفين المتواطئين، يطلقون على هذه الانتفاضات أقذع الأوصاف، أبسطها أنهم حفنة من الرعاع والهمجيين، وضعوا أنفسهم بخدمة أعداء الخارج، وأنَّ مخابرات الدول الأجنبيَّة هي من يحركهم، ويدفعهم الى النهب والعنف والتخريب!
وقد كان من اكتشافاتي هذه الأيام التي كنتُ أجهلها في السابق، أنَّ الثورة الفرنسية عام 1789م؛ هذه الثورة التي لم ينته التغنّي بها بعدُ، كانت في منبثقها انتفاضة خبز، فقد انطلقت يوم رفض الملك لويس السادس عشر، نصيحة من حذّره مغبّة التلاعب بإنتاج الحبوب والتدخّل في الخبز، حيث كان الطحين يمثل 60 – 80 ٪ من الصناعات الغذائيَّة، لكنه لم يصغ للنصيحة، وتدخّل بخبز الفقراء دون خبز الأغنياء، وقد كان الخبز طبقياً في فرنسا يومذاك، فتحرّكت الجماهير وتحوّلت الانتفاضة إلى ثورة انتهت بإسقاط الملكيَّة.
انطلقت في الصين بشهر نيسان 1989م انتفاضة الطلبة الجامعيين في ميدان وسط بكين، فكان الإعلام الرسمي لها بالمرصاد، وهو يتهمها بالتحريفية في الداخل وبالتبعية إلى الخارج، ثمّ سحقها النظام بقسوة العسكر ودبابات الجيش، حتى جاءت الحصيلة أكثر من عشرة آلاف ضحيَّة. بعدها بسنتين كانت انتفاضة الشعب العراقي في شهر آذار 1991م، التي انتهت بإسقاط أكثر من ثلثي المحافظات، وكرّر الإعلام الرسمي القصة السخيفة ذاتها، حين وصفها بأنها صفحة الغدر والخيانة، واتهمها بالعمالة والتبعيَّة للخارج، قبل أنْ يمارس أبشع حالات القمع لسحقها. وفي طهران انطلقت الانتفاضة الطلابية العارمة عام 1999م، فجاء صوت الإعلام الرسمي ورموز النظام ينعت المنتفضين بأنهم مجموعة من الأراذل والرعاع والأوباش!
تنتهي بنا هذه الأمثلة إلى قاعدة، تنعت النظم انتفاضات بلادها، أنها حركة من الرعاع والأوباش والسرّاق والمخربين، مرتبطة بالخارج، والعلاج الوحيد للتصدّي لها هو الأسلوب الأمني، عبر القمع الشديد.
الغريب إنَّ هذه الأوصاف بما تطويه من قواعد وأُطر، ظهرت في الحركة الاحتجاجيَّة داخل الولايات والمدن الأميركيَّة، فلم يتورّع ترامب عن وصفها بالعار الكبير، ونعت وزير عدله للمحتجين بأنهم مندسون ومخربون وسُرّاق، قبل أنْ يعود ترامب لوصفهم ثانية بأنهم إرهابيون يمارسون الإرهاب الداخلي.
وقد جاءت بقية القصة من دون أنْ تشذّ عن أي بلدٍ آخر في العالم، فترامب يدعو صراحة إلى القمع والشدّة، وقد أُعلنت حالة الطوارئ، وفُرض حظر التجوال، ونزل الجيش إلى المدن، وبدأ التمهيد للضغط على وسائل التواصل، وهو ما يساوي حجب النت في بلادنا، ثمّ جاءت آخر اللقطات لتستكمل المشهد، حين رفع ترامب الإنجيل، ليذكرنا بمصحف صدام الذي كتبه بالدم ورفعه بالمحكمة، ثمّ زار الكنيسة ومرقد بعض اللاهوتيين، ليذكرنا بزيارة صدام لحضرة أبي الفضل!
قصة هذه الأمثلة وموضع الشاهد، إنَّ لغة السلطة واحدة، لا تفترق بين الشرق والغرب، وبين المسلمين وغيرهم، كما أنَّ قوانين الطغاة واحدة، لا تفصل بينهم الأزمنة والأمكنة والبلدان، يتحدّثون جميعاً بلغةٍ واحدة!