هندسة التاريخ!

الصفحة الاخيرة 2020/06/07
...

 جواد علي كسّار
«صوت من منطقة العقل» هذا عنوان مقال مطوّل كتبته عن المفكر الأميركي نعوم تشومسكي قبل عقدين، تحديداً بالتزامن مع حوادث ضرب العمق الاميركي في أيلول عام 2001م. فقد راعني يومها تصاعد حديث الانتقام والثأر في أميركا كلها، وتحوّل إلى ضرب من الهوس والخبال، فتساءلتُ نصاً: هل غاب حقاً صوت العقل في أميركا تماماً؟
وحين اطلعتُ على الإطار التفسيري لتشومسكي كتبتُ عنه من فوري، ووصفته بأنه صوت منبثق من منطقة العقل، لأنه ببساطة تعامل مع واقعة أيلول بطريقة منطقية، حين ترك الظاهرة وغاص في أسبابها، ومن ثمّ لم يسمح لعقله المنطقي المشهود، أن يقف عند النتيجة على مضاضتها، ويترك المقدّمات المؤلمة بل المخجلة، وهذه بالضبط هي مهمّة المفكر، بل حتى المحلل السياسي، فالمحلل السياسي هو من يضعنا في إطار مقدّمات الظاهرة وأسبابها، ويغوص فيها عميقاً ليأخذ بأيدينا من المعلولات إلى العلل، ومن النتائج إلى المقدّمات، ثمّ يجتهد الحلول وعرض الخيارات، لا أن يبقى طافياً على السطح كالفقاعة!
بديهي كنتُ أتابع تشومسكي قبل ذلك المقال ودمتُ على قراءته ولا أزال، بحيث مررتُ على عشرين أو أكثر من كتبه، مركزاً في برهة معينة على نظريته اللسانية المشهورة في اللغة، أقصد بها نظرية النحو التوليدي، أو على نحوٍ أدق النزعة الفطرية الطبيعية التي أشاد عليها نظريته في تفسير اللغة. وفي الأزمة التي تعيشها أميركا اليوم، وجدتُ نفسي مع الفكر السياسي لتشومسكي؛ هذا الفكر الذي يقود في أميركا الآن، ما يمكن أن نسمّيه بتيار النقد الكلي؛ وهو التيار الذي يضمّ أسماء كبيرة بارزة ومؤثّرة إلى جوار تشومسكي.
عدتُ إلى تشومسكي مجدّداً، لأنه ببساطة يضعك في صميم مقدّمات الأزمة، ويقحم عقله وفكره المنطقي في تفكيك الظاهرة وأسبابها، دون أن يرضى الوقوف عند السطح، عاجزاً حائراً متردّداً!
في رحلة الغوص صوب الأسباب والعلل، يقف عند ما يسميه نصاً «إرهاب الدولة» هذا الإرهاب الذي يحمي بعض المواطنين تحت عنوان اللون والطبقة؛ ويجعل آخرين من بين ضحاياه، حيث يقول: «إذا ما كنت أبيض ومن الطبقة الوسطى، فعندئذ تكون الفرص لأن تتعرّض لإرهاب الدولة، ضئيلة جداً». وفي المقابل: «إذا ما كنت منظماً أسود في الفيتو الزنجي، فإنه من الممكن اغتيالك بواسطة الشرطة السياسية الوطنية». وهكذا لا يقدّم لنا الأنموذج التفسيري هذا، عمليات قتل السود على أنها مجرّد حوادث، أو تجاوزات من قِبل الشرطة، بقدر ما أنها حالة لإرهاب الدولة القائم على أساس التمييز في اللون والطبقة.
تتوغل نظرية التفسير أكثر لتكشف أسباب الاضطهاد العرقي وتصاعده، في عيوب التأسيس، فقد قامت أميركا و شيد نظامها الدستوري، على أن البيض مالكون لأميركا وحاكمون لها معاً دون غيرهم، وهي القاعدة التي تقول: «الشعب الذي يمتلك البلد يجب أن يحكمه» وهذه «بالضبط الطريقة التي أُنشئ عليها النظام الدستوري؛ انه كان نظاماً أعتبر فيه الرجال البيض مالكين وحاكمين للبلاد، وكانت لهم جميع الامتيازات».
كان من نتائج هذه الفلسفة «هندسة التاريخ» بإعادة بناء الماضي وإتلاف الذاكرة ومحوها كما يقول تشومسكي نصاً، وستبقى الدولة الاميركية تدفع ثمن هذه الهندسة القسرية بتوالي أزمات الداخل، إذا لم تبادر إلى تعديلها!