حوادث أميركا الحالية وتداعياتها في العالم، فتحت ملف الغرب والحياة فيه على مصراعيه، وأعادت النقاش بجدّ عن الحضارة الغربية. الحقيقة أنَّ هذا النقاش لم ينقطع يوماً في منطقتنا والعالم منذ لحظة وعينا للغرب، وبالتقارن مع ما أسماه أدونيس في كتابٍ موسوعي من أشهر كتبه، (صدمة الحداثة)، وليس في ذلك غرابة والغرب هو مادّة عصرنا، كما أطلق عليه الفضل شلق هذا الوصف!
تضعنا هذه الملاحظة أمام سيلٍ متدفقٍ من دون انقطاع، من كتابات بعضها مشاريع فكريَّة مهمّة، انطلقت خلال العقود الأخيرة، وهي تتناول موضوع الغرب بشقيه الأوروبي والأميركي. تميّز من بين هذه الكتابات التفسير الأخلاقي القيمي العقائدي، وأنَّ أميركا وأوربا يعيشان حضارياً أزمة أخلاقيَّة، وقد كان هذا الاتجاه ألصق ما يكون بالإسلاميين الحركيين، أمثال المودودي والشقيقين قطب (محمد وسيد) والقرضاوي والغزالي ومن اتبعهم.
لكن إلى جوار التفسير الأخلاقي برز في كتابات صنف آخر من الإسلاميين، التفسير الاجتماعي والتاريخي لأزمات الحضارة الغربية، قرأنا بواكيره في كتابات السيد الصدر، كما تميّزت في هذا المجال رؤى وملاحظات المفكر الهندي المسلم كليم صديقي، عبر تجربة خصبة في قراءة الغرب من خلال عددٍ من الأطاريح، بعد أنْ أمضى (35) سنة من الإقامة فيه، والعمل في إعلامه ومؤسّساته، وإتقان لغته.
على الغرار نفسه جاءت قراءات ظفر الإسلام خان نجل المفكر الهندي الراحل وحيد الإسلام خان، كما برز من العراق المؤرخ عماد الدين خليل في الكثير من مباحثه وكتبه.
اقتصادياً وعبر تحليل مستحدث لفائض رأسمال المال، قدّم المفكر العربي الراحل سمير أمين أعمالاً نقدية استندت إلى تحليل خداع النمو الرأسمالي الغربي، والكشف عن بنيته الحقيقيَّة المتوارية في سرقة ثروات الأطراف، تكديساً لثراء المركز وترفه، عبر النموّ اللا متكافئ بين المركز والأطراف، على النحو الذي استطاعت كتاباته أنْ تنفذ إلى الغرب نفسه، بل تسجّل حضوراً متميّزاً في أميركا ذاتها.
ضمن نطاق منهجيَّة التحليل المعرفي كان حسن حنفي سبّاقاً، وهو يقدّم لنا بجرأة فائقة وثقة عالية بالنفس، الاستشراق معكوساً، عبر محاولته الواثقة الشجاعة الرصينة «علم الاستغراب». لكن يبقى متميّزاً على الصعيد المعرفي مشروع الثلاثي هشام شرابي وإدوارد سعيد ووائل حلاق، وهو مشروع بحاجة إلى عودة أكيدة، للكشف عما يستبطنه من عناصر تمايز واشتراك، في تحليل أزمة الحضارة الغربيَّة، كما يستحق مبادرة أو أكثر من أصدقائنا في الدراسات العليا.
بشأن أميركا أبقى منجذباً دائماً في الساحة العربيَّة، إلى الأنموذج العميق الذي قدّمه عبد الوهاب المسيري باكراً، تحديداً عام 1979م عند صدور كتابه المهمّ «الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأميركيَّة» بعد مكوثٍ في أميركا دام ثلاث عشرة سنة. بيد أنَّ هذا الأنموذج على أهميته تطوّر بعد ذلك كثيراً، بالتطوّر الفكري والمنهجي للمسيري نفسه، وتحوّل إلى واحدٍ من أهمّ مشاريع تحليل الحضارات ومراجعتها، كما تابعنا ذلك في أغلب مؤلفات المسيري، مثل «العالم من منظور غربي» و«رحلة الإنسان والإيمان» بلوغاً إلى كتابه الضخم المهمّ «رحلتي الفكريَّة».
أما أوربياً فلم يجذبني كتاب عن أميركا، كما حصل مع عالم الاجتماع ميشيل كروزييه، الذي حمل عنوان «المرض الأميركي» وتُرجم إلى العربية بعنوان «الداء الأميركي». فرغم أنَّ هذا الكتاب صدر عام 1980م، إلا أنه لا يزال غضاً طرياً بعد مرور أربعة عقود عليه، كما جرّبتُ ذلك مرّات عند العودة إليه، كان آخرها ساعة كتابة هذا العمود.
أخيراً في أميركا نفسها هناك ما يمكن أنْ نسميه بتيار النقد الكلي أو الجذري، أنصاره ذوات معرفيَّة كبيرة، وليس كما يصفه ترامب ومن ورائه اليمين المتطرّف، أنه تيار يساري في محاولة لعزله وتهميشه واغتياله معنوياً، وما صاحب المئة عام نعوم تشومسكي إلا قامة كبيرة في هذا التيار وركنٌ من أركانه، كما سنبيّن ذلك في متابعة لاحقة بإذن الله.