فيلمان يفصل بينهما قرن من الزمان، يتشابهان في العنوان، ويختلفان بالمضمون، بل يتناقضان، الأول " مولد امة"(1915) من اخراج وكتابة وإنتاج ديفيد واراك غريفت، معتمداً على نص مسرحي بعنوان " رجل القبيلة" كتبه الأميركي دوماس فريدريك ديكسون من دون ان يخفف من غلواء أفكاره، والثاني باسم " مولد امة" (2016) أيضا، وهو من اخراج وتمثيل وكتابة تيد باركر.
الفيلمان يتخذان من الفصل العنصري موضوعا لهما، الأول يمتلك الريادة التأسيسية لفن السينما، فهو أول من حرك الكاميرا باتجاه الممثل، وحقق لقطات بانورامية ومتوسطة، وصور الممثل من الجانب والخلف، واهتم كثيرا بمشهدية الفيلم، مبتكرا التشويق والحبكة، لاسيما المونتاج المتوازي، وهو أيضا اشتغل على ثيمة الحرب الاهلية بين الجنوب والشمال الأميركيين بنعومة وحرفنة، اذ جعل أحداث فيلمه من خلال اسرتين ثريتين؛ احداهما تناصر الجنوب والثانية تنحاز للشمال، هذه التحفة السينمائية التي تمتد احداثها على مدار ثلاث ساعات، روجت للفصل العنصري بشكل مؤدلج وصريح، فغريفت صور السود كمجموعة من القتلة والمتوحشين والمغتصبين، الذين يستحقون الموت ويجب ان يعودوا الى ديارهم، كي تخلص اميركا من شرورهم، هذه المفاهيم ليست فارغة، انما نفذها هذا العبقري، الذي دخل السينما من معطف المسرح، بفذوذية وريادة ما زالت تحير صناع السينما ونقادها، فهو إضافة لما ذكرنا اول من استخدم اللقطة القريبة وابتدع السيناريو واختار ممثلين حصرا للسينما، مثلما نقلت ليليان غيش ممثلته الاثيرة في مذكراتها، اذ قالت : " اخبرني غريفت في اول لقاء به، ان السينما غير المسرح، فهي لا تحتاج الى كلمات"، و صاحب "التسامح" هو أول من قسم احداث الفيلم الى مشاهد، كل هذا الإنجاز غير المسبوق حدث في طفولة السينما، وبذا استحق بجدارة لقب "الاب الشرعي" للفن السابع، لكن غريفت الذي اخرج 500 فيلم روائي صامت قصير وطويل، كان عنصريا في " مولد امة" وحرض على قتل الزنوج وصورهم مجرد مخلوقات لا تصلح، الا لخدمة الرجل الأبيض، فيما جمل صورة عصابات الـ "كو كلوكس كلان" العنصرية ووصفهم بالمنقذ من "الوحش البشري الأسود".
اما فيلم " مولد امة" الذي اخرجه الأسود تيد باركر وانتجه ومثل فيه في العام 2016، فهو مختلف تماما من حيث الرؤية والأفكار، بتوثيقه عذابات الزنوج من خلال ثورة العبد نات تيرنر، الواعظ الزنجي المثقف الذي قاد ثورة العبيد في فرجينيا ومات شنقا، وبموته تبلورت هوية أَمة سمراء، اذ لم يعد الزنوج خانعين ومستكينين، فهم أيضا بشر ولهم حق في هذا الوطن، وعلى العكس من "مولد أمة "غريفت، أنتج الفيلم الثاني والسينما تعيش خريفها وتتمتع بالتقنيات الفائقة، وأميركا، هي اميركا فبدلا من وسائل الإنتاج الزراعية وبداية الصناعة في نهايات القرن التاسع، ظهرت علاقات إنتاجية معقدة تعتمد التقانة والشركات المعولمة ، التي وسمت الرأسمالية، لا سيما الأميركية بالتغول والعنصرية .
وكأنما تنبأ المخرج الشاب باركر بما يحدث هذه الأيام بعد مقتل المواطن الأميركي الأسود على أيدي الشرطة الأميركية بقسوة تذكر بأيام العنف العنصري، ففي مقابلة صحفية مع "رويترز" قال باركر: "أشعر أن هذا البلد يعاني من الفصل (العنصري) الآن بشكل أكثر مما كان في فترات من الماضي.. وبالتالي فإن مشاهدة فيلم يتحدث فعليا عن هذا ويطور النقاش لهو أمر ملهم ومشجع".