مرايا الكتاب

ثقافة 2020/06/10
...

محمد صابر عبيد
 
 
المرايا تعكسُ هيآتٍ وصوراً وأحجاماً مختلفة للكتاب تكرّره وتضاعف من وجوده العيانيّ أمام شهوات التلقّي المتنوّعة، ولكّل كتاب عددٌ لا متناهٍ من المرايا تنتشر على غلافه وفي صفحاته وفي طيّاته وزواياه وظلاله وتموّجاته وآفاقه وضفافه، تقدّم كلّ مرآة منها صورة وحجماً ورؤية وفضاء خاصاً بها، يعود على طبيعة صانعها وأسلوبه في التفاعل مرآويّاً مع الكتاب، فالقارئ مرآة الكتاب والكتاب مرآة القارئ، في علاقة جدليّة متكافئة تؤسّس لفكرة الحبّ بين طرفين لا بدّ لأحدهما من الآخر حتى تكتمل الصورة المطلوبة أساساً، وحين يخفق القارئ في أن يكون مرآة للكتاب الذي يقرأه، أو يخفق الكتاب في أن يكون مرآة لقارئه، تنتفي حيوية هذه العلاقة ويسقط معناها لتصبح بلا قيمة وبلا وجود أيضاً، فلا كتاب قابل للقراءة عندئذٍ ولا قارئ بوسعه أن يتفاعل مع مقروء.
تنتجُ الفاعليّةُ المرآويّةُ بين الطرفين حالةً من التصالح البهيّ القادر على بناء صورة المعنى بأشكاله المختلفة، فلا مناص مطلقاً من بلوغ درجة التفاعل والتعاشق والتضافر والتصاهر بينهما أعلى الدرجات والمقامات والمقاصد، كي يكون الناتج واضحاً وصادقاً وأصيلاً وقادراً على الإبلاغ والإسعاد والإمتاع والإدهاش على النحو المتوقّع والمطلوب، وهو ما يسهم أخيراً في بناء صورة المعنى في أعلى درجات التكامل والتشكيل والصيرورة البهيّة الأنيقة الحاسمة.
 ومن غير القدرة على إنتاج صورة المعنى بهذا الشكل الباسل الناجز، فإنّ الكتاب وقراءته يصيران نوعاً من البَطَر أو التسلية أو تضييع الوقت أو العمل الذي لا طائل من ورائه، فعلى المرآة الخاصّة بالكتاب أن تكون في أنصع درجات إمكاناتها وحيويتها وصفائها ونقائها وتركيزها، كي تتمكّن من الأخذ بيد العين الرائية الباصرة نحو مكامن المعنى، بين تفاصيلها وفي زواياها وطيّاتها، مثلما على المرآة الخاصّة بالقارئ أن تحاكي الطاقة المرآويّة الخاصّة للكتاب للوصول إلى أفضل درجات التفاهم والتماهي، لأجل دفع العمل المرآويّ المشترك كي يبلغ الدرجة المُتمنّاة من الفهم في إنتاج المعنى وصولاً إلى تحقيق الرضا الذاتيّ والموضوعيّ في المستويات كافّة.
إذا لم يكن (الأدب تعبيراً عن البهجة) كما يقول بورخيس، فهو لا يمكن أن ينتمي الانتماء المطلوب الحقّ لهذا النشاط الإنسانيّ الخلاق أبداً، ونحسب أنّ البهجة في هذا المستوى من الفهم البورخيسيّ هي مرآة عالية الصفاء والنقاء والوضوح والبلاغة، بحيث تتنكّبُ قدرة استثنائيّة على عكس صورة الفرح الإنسانيّ في درجاتها وطبقاتها وزواياها وظلالها المتنوّعة.
 وبما أنّ قَصْرَ الأدب هو الكتاب في نموذجه البنائيّ المعقّد والغامض والفاره والمشحون بالاحتمالات والتوقّعات والرسائل الخفيّة الكامنة، فلا بدّ من أن يكون الأديبُ المُشيّدُ لهذا القصر بارعاً في هندسته المعماريّة المعبّرة عن جوهره وحساسيّته وحلمه وذاكرته وخياله وأفقه، وهو يشيع علامات الفرح في كلّ تفصيل وإلماحة وزاوية والتفاتة هندسيّة تجعل من هذا البنيان الجميل مناسبة للسعادة والبهجة والحبّ والتواصل، بما يكشف عن حساسيّة اللمسات البارعة التي تحطّ فيها أصابع الفنان العبقريّة على زوايا الأمكنة وطبقاتها وأفيائها، كي يصنع البهجة المشتهاة ويحوّلها من لحظة فرح مجرّدة إلى أسلوب حياة كاملة متكاملة، تحضر في الأجواء والتفاصيل والقيم والأفكار كلّما حضرت الفكرة الأصيلة واللمحة الإنسانيّة الخاطفة التي لا تتكرّر، لأجل أن يطلق الأدب ألعابه الناريّة في الفضاء فيملؤه بأقواس قزح لا نهايات لها على نحو يسحر المكان ويوقد فيه شعلة الفرح الذي لا ينتهي.
وإذا كان للكتاب، أيّ كتابٍ، بطلٌ مفترَضٌ أو عرّابٌ محتمَلٌ يقود أنشطته وفعالياته ومقاصده، فلا بدّ من أن يكون هذا البطل أو العرّاب هو القارئ، فلا قيمة للكتاب من دون بطل أو عرّاب يحوّل كلماته الثاوية في كمون صفحاته إلى طيور معدّة للطيران، أو أزاهير مهيّأة للتفتّح والازدهار وبعث بهجة الألوان والروائح الزكيّة في محيط العمل والتواصل، حيث يتحدّى هذا القارئ المحفّزات القرائيّة الكامنة في الكتاب ويسعى إلى اختراقها وتفكيك أسرارها وبعث معانيها وإطلاق عبقها، لذا كان للقارئ موقع مهم في الثقافات الكبرى في العالم من دون استثناء ومنها الثقافة العربيّة القديمة، فقد كان القارئ دائماً محلّ عناية من لدن الكتّاب والنقّاد والمنظّرين، بحيث جاء حضوره أصيلاً في كلّ ما له صله بالكتاب، إذ هو المرآة الملوّنة والمتعدّدة الأكثر سطوعاً وفاعليّة داخل فضاء الكتاب وخارجه. يسعى القارئ نحو اكتشاف ذاته في مغامرة الكتاب، بما ينطوي عليه من قدرةٍ ورغبةٍ وتحدٍّ، مثلما تتسنّى للكتاب فرصة التعبير عن رؤيته ومنهجه ومقولته وبيانه وبلاغته ومضمونه بين يدي القارئ، وهذه المرايا العاكسة التي تشتغل بين الطرفين هي التي تعمل على خلق الأطياف المناسبة من مضمون الكتاب وموجّهات القارئ. للمرايا نشاط خاصّ لا يصل إلى أعلى درجات كفاءته وقوّته إلا في بلوغ حالة قصوى من التماثل والتفاعل والتداخل تفوق ظنّها الأوّل بين الطرفين، عندها تشحذ مرايا الكتاب ما تكتنزه من طاقات وقدرات وإمكانات مخزونة ومضمرة ومستورة، كي تنشرها دفعة واحدة على سطوحها لأجل رؤية أوضح وبيان أجلى ودلالة أخصب ومعنى أشمل وأكثر حيويّة.
تحتاج القراءة إلى مرآة مرافِقة لها مثلما يحتاج الكتاب إلى مرآة عاكسة لمضمونه، مرآة القراءة ينبغي أن تكون فاحصة وراصدة وحاضرة في تفاصيل التفاصيل القرائيّة وهي تغوص في جسد الكتاب، ومرآة الكتاب هي الأخرى ينبغي أن تشحذ طاقاتها المرآويّة بلا حدود، كي توصل فكرة الكتاب إلى القارئ بأعلى درجات الإحساس والفهم والبهجة، إذ إنّ الانعكاس المرآويّ بين طرفي العمليّة القرائيّة بفعالياتها المتراوحة بين منطقة القراءة ومنطقة الكتاب هو جوهر الممارسة، وهذا الانعكاس بما يولّده من التماعات ضوئيّة تضرب بنورها على الأرجاء كلّها يجعل صفحات الكتاب قابلة للقراءة، وقابلة للفهم، وقابلة للتمثّل والفائدة، في نظام شامل ومتكامل تعزّزه مجموعة من الضوابط والقوانين والأعراف التي لا بدّ منها كي تبلغ المرآة في الجهتين أبلغ درجات عطائها وفعلها وإنتاجها.