الصورةُ والقراءةُ

ثقافة 2020/06/16
...

محمد صابر عبيد
 

تعد ثنائيّة الصورة والقراءة من أقدم الثنائيّات التي تخصّ نظريات التلقي وطرائق استعمال الحواس الإنسانيّة التقليدية، فالتلقي يتعمد اعتماداً مطلقاً على الحواس بوصفها الجسر الذي ينقل المواد المشاهدة والمقروءة إلى الذهن.
حيث يجري العمل عليها من حيث الفهم والإدراك والتحليل وإعادة الإنتاج وغيرها، فالعين مثلاً هي الأداة الأولى في التلقّي إذ بوساطتها تلتقط العين الصورة أو الكلمة وتنقل محتواها أو فضاءها إلى منطقة الذهن، والأذن أداة أخرى لتلقّي المسموعات ونقلها، والأمر نفسه ينطبق على الأنف لنقل حساسيّة المشمومات، واليد لنقل حساسيّة الملموسات، واللسان لنقل حساسيّة المواد القابلة للتذوّق، وتخضع كلّها في منطقة الذهن البشريّ لفعالية الاحتواء والأخذ والهضم والتحويل والخزن وغير ذلك من العمليات العقليّة التي تحوّل هذه الأشياء إلى معرفة مكتسَبَة.
الصورة أقدم من القراءة وعلى هذا النحو فلربّما الأصحّ القول: في البدء كانت الصورة، إذ لا شكّ في أنّ الصورة قرينة الطبيعة وهي موجودة بأصالةٍ وتَكَوّنٍ وتَلَوّنٍ وعَرضٍ وإدهاشٍ وإثارةٍ في مقتربات الحياة وتفاصيلها منذ بدء البشريّة، لا مجال لتفادي الصورة بوصفها نموذجاً للمعرفة القائمة على لذّة الاستمتاع البصريّ الملموس بمشاهدة الصور والانتشاء بها، لوناً وشكلاً وحجماً وخَطّاً في كُتَلٍ صوريّة تُنعش العين وتُسرّ الخاطر الناظر إليها في لحظة توافقٍ وانسجامٍ وبهجةٍ واقترانٍ، وحين يستعد المرء ألبومه الصوريّ منذ الطفولة سيجد أنّ الذاكرة الصوريّة قد حفظت له عدداً هائلاً منها، طالما وظّفه واستخدمه في مراحل مهمة من حياته، وقد يكون أنقذه من مواقف عصيبة لأنّ الذاكرة البصريّة أيضاً تخوض دائماً امتحانات عسيرة لأجل استعادة صورة ما وقت 
الحاجة.
لا يحتاج تلقّي الصورة في نسختها العفويّة البسيطة إلى معرفة مسبقة وثقافة عالية ودرس منهجيّ يقوم على النظريّات والفرضيّات والاحتمالات، فالصورة بطبيعتها التشكيليّة معدّة أساساً كي تكون مادة جاهزة للتلقّي تتحوّل إلى فضاء متاح لذلك منذ اللحظة التي تتلقّاها العين الرائية، بمعنى أنّ العمليّة هي جزء من الممارسة البشريّة التقليديّة التي يتيحها وجود حاسّة العين لدى الإنسان، لذا فإن فاقدي البصر يستحيل عليهم تلقّي الصورة على النحو الذي يتلقّاها فيه المبصرون لأنّهم يفتقرون لهذه الواسطة الضروريّة في هذا المجال.
بوسع العين على نحو بدهيّ وعفويّ –وحتّى ساذَج- أن ترى وتشاهد الصور وتستمتع وتتلذّذ بجمال المرئيّات بحسب طريقة الرؤية ومرجعيتها الثقافية والفكرية والجمالية، وهي تفعل ذلك قدر استطاعتها بما ترى وتشاهد وإنْ خلت من أيّة تجربة سابقة في مجال الرؤية البصريّة المباشرة.
فالصور إنّما أُعدّتْ أساساً للنظر والمعاينة والمشاهدة والتذكّر والاستمتاع، وللعين أن تكتسب خبرة التعامل مع الصور والتفاعل معها بصريّاً كي يتشكّل مزاجها على نحو يحقّق البهجة والفرح والإدهاش، في نوع من القراءة البصريّة الضمنيّة التي تقوم على هاجس الإحساس والتمثّل الذهنيّ غير القابل للشرح، فحين يقوم الرائي بشرح الصورة فإنّه يُفقِدها الطاقة البصريّة المطلوبة لإنجاز متعة 
النظر.
يحتاج النصّ المكتوب لقراءةٍ تجلّي مضامين ومقولات وأطروحات المتن النصيّ بحيث يبقى النصّ ميتاً من دون القراءة، فالقراءة فعل إحياءٍ عمليّ للنصّ وتحويله من الكمون إلى الخطاب حيث يكون قادراً على التواصل مع الآخر القارئ، ولا تعني القراءة بطبيعة الحال السير على شبكة الحروف والألفاظ والجمل والتعابير والكُتَل الكلاميّة والاكتفاء بتحويلها إلى أصوات مسموعة، بل تفكيك محتوياتها والعثور على المعاني والدلالات والقيم والمقاصد والآراء والأهداف والمجازات والرموز، فالنصّ المكتوب ليس مُعدّاً للنظر فيما يحتويه من كلمات بل فيما تحتويه الكلمات من طبقات دلاليّة منضّدة الواحدة فوق الأخرى، ولا يحسنُ بلوغ الثانية ما لم تتمكّن من تجاوز ما قبلها بنجاح وتأهيل وكفاءة حتى تصل إلى مبتغاك في فضح أسراره ونيّاته الخفيّة الغامضة.
في حين لا تحتاج الصورة لقراءةٍ موازيةٍ كأنّها نصّ مكتوب يبحث الرائي في طبقاتها عن المغزى الدلاليّ للدوال والرموز والمعاني والمقاصد والقيم والاعتبارات، بل تحتاج إلى تشغيل حاسّة البصر بأعلى طاقة وكفاءة وحيويّة لأجل اشتباك العين الباصرة بالصورة خطوطاً وألواناً وكتلاً وحجوماً وتفاصيل تشكيليّة أخرى، ومن ثمّ الاستمتاع بما ترى وتُحسّ وإثراء أدوات الحساسيّة البصريّة بطاقة التعبير الفنيّ والجماليّ الصوريّة التي لا تحتاج إلى كلام وشرح وتحليل وتفصيل، فقراءة اللوحة هي قراءة صوريّة ضمنيّة تقوم بها أدوات البصر المستقبِلة لكيانات الصورة بحيث يبتهج الجسد وتغنّي الروح بلا توقّف طالما أنّ العين تتحرّك على أديم اللوحة، وهذه القراءة بالتأكيد تستدعي ما يمتلكه الجسد من طاقات تلقٍّ وتحشدها كلّها في منطقة العين لتزويدها بأعلى الإمكانات، لكي تصل في تلقّيها البصريّ إلى الدرجة التي تمتصّ فيها ما تحتويه الصورة من ينابيع جماليّة ومكامن فنيّة.
القراءة بطبيعتها القائمة على تناول المقروء لغوياً ودلالياً تتوغّل في باطنيّة التشكيل اللغوي للمفردات والجمل وتستنطقها وتستقطب فواعلها، على نحو يجعل الكلمة والجملة والتعبير والنص محوراً أساساً ونهائياً في الممارسة القرائيّة، وهو ما يسهم في تعطيل الصورة وتنحيتها جانباً، والصورة في السياق نفسه تنتمي لتشكيليّتها وفضائها المرئيّ لتعطّل القراءة الذهنيّة وتستبعدها، في معادلة متوازية لا يمكن أن تُدحَضَ مهما تخصّبت القراءة في ظلّ المقروء، ومهما انفتحت الصورة أمام بصر التلقّي وحفّزته على مزيد من التأمّل والاستغراق في حالات الصورة ومتاهاتها.
لكلّ ممارسة إنسانيّة من هذا النوع آليّاتها وطرائقها ومقاصدها أيضاً، ولا ينبغي أن نُرغم آليّة معيّنة تعمل في سياق معيّن على أن تعمل في سياق آخر غير مهيّئة له مهما كانت الأسباب، وعلى الرغم من أنّ بعض المدارس النقدية الفنية التي تشتغل في هذا الموضوع تظنّ أنّه بالإمكان قراءة الصورة، في سياق تحويلها إلى نصّ قابل للشرح والتفسير والتحليل والتأويل، إلا أنّ ذلك يُفقِدُ الصورةَ كثيراً من ممكناتها التشكيليّة الجمالية حين يتمّ تحويلها إلى نصّ مكتوب يُعامَل معاملَة الكلام المخطوط، فلا بدّ إذن أن تبقى صورة يُطلَقُ لها عنان الرغبة البصريّة كي تتلقّاها وتستمتع بها متعة بصريّة تُنعِشُ فضاءاتها، وقد يكون شرحها أو تفسيرها أو تحليلها يعزل جماليّات التلقّي البصريّ أو يحيّدها ويخسر منجزاتها التي لا بديل لها.