روكو واخوته.. نُدوب الواقع وفيض العاطفة

الصفحة الاخيرة 2020/06/18
...

على الياسري  
 
(أنا أُحب الميلودراما لأنها تقع في النقطة التي تلتقي عندها الحياة والمسرح).
لا غرابة ان يكون فيلمه الشخصي المفضل فانحداره الطبقي الارستقراطي ثم ماركسيته وضعته في زاوية نَظَر تتوسط صراعاً مضنياً بين قساوة رأس المال وحِدّة البروليتاريا. يمزج فيسكونتي  شكل واقعية جديدة نشأت سينمائيا كانعكاس اجتماعي لصعوبات الحياة مع دفق عاطفي يستمد نسغه من حنين لطبيعة عيش جرفت بشرها بهرجة حضارة براقة متسارعة الخطى، غدت مع الوقت مذاقا مرا يبتلع الانفس ثم يلفظها بعد ان تستنزفها في صراع عيش مضن على قارعة طريق اسفلتي تلفه الوحشة. 
الواقعية الميلودرامية نهج عند المخرج الايطالي يتلون الحوار بصبغة الحديث اليومي للناس في الشارع وتغلب عليه اللغة الدارجة واللهجات المحلية، حتى لو كان السرد السينمائي مقتبسا من نص ادبي، رواية للكاتب جيوفاني تستوري. رؤية يمتزج فيها واقع حالي مُعاش بقصة ميلودرامية شبيهة باوبرا كتبها ماسكاني او بوتشيني من حقبة الفيريسمو بالقرن التاسع عشر. الامر ليس بجديد عند فيسكونتي، ففي مقالة له عام 1941 بعنوان (الحقيقة والشعر: فيرغا والسينما الايطالية) حث زملاءه المخرجين على النهل من تقاليد الادب الواقعي، وبالذات قصص وروايات جيوفاني فيرغا الذي كان معجباً بكتاباته وأشاد باسلوبه.
يجمع العنوان (روكو واخوته) بين الاسم الاول للشاعر روكو سكوتلارو الذي وصف بقصائده مشاعر الفلاحين في الجنوب الايطالي، وبين الشطر الثاني من عنوان رواية الكاتب توماس مان (يوسف واخوته)، وهو اسقاط واضح المعاني، فللأخوة والذئب سِفرٌ من الحكايات والخطوب. كذلك الحال بين الشماليين والجنوبيين الذين يمتد بينهم تاريخ طويل من التفاوت الاقتصادي والاجتماعي يتمثل بصراع دائب يبدأ من الطبقية والتناحر الجغرافي وأسباب الغنى والفقر، ليمر على تأثيرات الكاثوليكية بالفرد رفضا او قبولا، ثم ينتهي الى محطة الفعل والالتزام بمحمولاته الاخلاقية. انها سمة في سينما فيسكونتي التي تخلق شبكة معقدة التركيب من تناقضات يتوسط فيها طرحه الشخصي بين صيغة التعبير ونمط الاسلوب بما يحفظ للواقع حقيقته المجردة المرتبطة بفعل حركية النشاط الانساني، وللجمال الفني ضخه الشعوري المستمد من فضاء الخيال.
يفتتح الفيلم على وقع ميلودراما غنائية اوبرالية كرجع صوت لصورة اسرة تتطلع الى ان تزرع جذورها خلف قضبان المدينة. يضيق فضاء العيش على رحابة ارضهم الجنوبية بعد ان ضعف مردود الفلاحة، فيعمد فيسكونتي الى حشرهم في عربات القطار ثم بعلب شمالية اسمنتية رطبة وباردة كناية عن الاختلاف الجذري لطبيعة الحياة. وفي ايطاليا رغم الوحدة التي فرضها غاريبالدي بالقوة يوما ما لكن ثمة فوارق مترسخة لم تمحها ثوريته وظلت تتمادى مع الوقت باستعلاء وعنصرية واحتقار تطرفت للحد الذي غدت فيه تقاليد تقفز بوجه كل من يركب القطار الصاعد من الجنوب.
 رأت ذلك اسرة باروندي وهي تدفع العربة داخل اسوار الحداثة وصخب الحياة في ميلانو. الابناء الخمسة أُطر الملحمة السينمائية وقبضة يد الام التي كانت مجتمعة حولها تأخذهم تراجيديا العيش والصراع الى متاهات التشظي والتناحر. تحول حلمها بالرفاهية الى توق روحي بأن يجتمعوا مرة اخرى على مائدتها. يرسم وجع الام التي وضعت اواصر الوحدة بين ابنائها على حافة الامنيات لكنها انزلقت نحو مأساة كلما دفعتها من جهة تناهت اليها بشراسة حياة المدينة الجارفة من جانب اخر، بورتريه يرمز المخرج به الى تلك الخيبة الاجتماعية التي تلت وحدة ايطاليا بزوال احلام الازدهار نحو صراع طبقي قاسي تُذكي ناره مقاربات سياسية متناحرة أوهنت نسيج المجتمع. 
ان العناوين المخفية تحت كل فصل مثلته اسماؤهم، تقترن بنظرة متعمقة لطبيعة وجود ومسار عيش يتماهى فيه الشخصي بالعام لتكوين صورة الواقع. يختار فينتشينزو الارتهان والمسايرة حد الاضمحلال فتذوب شخصيته في همه الذاتي حتى تتلاشى من صورة الاسرة. ويحتفل سيموني ببزوغ كيانه الذكوري بين فراش اللذة مع النساء والعربدة في الحانات على وهج انتصاراته بحلبة الملاكمة قبل ان يأفل نجمه سريعا ويخر مترنحا بوحل خطاياه المدفوعة بتلوينات مشاعر الانا والنَزَق. كان روكو صوت العقل الذي سعى لمقاومة تيارات المدينة ببهرجتها وغوايتها الفاتنة سعيا للمحافظة على رباط الاخوة. يصارع امواج الصخب العالي لماديات الحياة وضغوط السحق التي تمارسها على الارواح والمشاعر دون جدوى. فيستسلم لرياحها مخالفا بذلك الكثير من مثالياته، تحمله الى واقع مرير في مضمونه يتجمل فيه ظاهرا بشكل البطولة، بيد انه أكبر الخاسرين. يحاول سيرو ان يتوازن على مضض وهو يتطلع الى شقاء اخوته الذين سحقتهم عجلات الرأسمالية، فلا يجد ملاذاً غير قارب الحب للنجاة، والقناعة ان العامل صنو الفلاح الذي غادر ارضه الى غير رجعة. ومن خلاله يُظهر فيسكونتي نزعته الماركسية بوحدة البروليتاريا. لا ينسى المخرج تغذية الامل بالمستقبل فيقع ذلك على عاتق شخصية الصبي لوكا اخر الابناء والذي ينتهي معه الفيلم على فرادة شعورية يبحث فيها الجيل الجديد ربما عن بطل منقذ يتمثل ذلك بصريا بلمس الفتى لملصقات صور اخيه روكو يرويها صوت الشجن ذاته الذي افتتح فيلمه ولكنه هذه المرة يستهدف نشيج الذاكرة المتعلقة برجاء العودة وإن كان ضعيفا الى الارض الام، لأنه يُقر ان الواقع هو صناعي أكثر منه زراعي بتلك المجاميع من العمال التي ملأت اخر المشاهد.