علي حمود الحسن
حادثتان مر بهما المخرج الأميركي من أصل بولندي رومان بولانسكي، وكادتا أن تطيحا بموهبة قل نظيرها في تاريخ السينما المعاصرة، لولا اصالة وعبقرية بولانسكي المتفردة، التي تمظهرت بفيلمه” حافة السكين في الماء” (1962)، مروراً بـ “ماكبث”(1971)، و” عازف البيانو” (2002) وانتهاءً – بـ “ انا اتهم “ (2019) المقتبس من المقالة الأشهر للكاتب الفرنسي أميل زولا، التي دافع فيها عن قضية اتهام الضابط اليهودي درايفوس بالخيانة العظمى، هاتان الحادثتان، هما: مقتل زوجته الحامل تيت شارون في بيته برفقة ستة من اصدقائهما على ايدي اتباع زعيم مهووس لجماعة من الهيبز يدعى تشارلز مانسون في العام1969، والثانية اغتصابه لعارضة الأزياء القاصر والمصورة الفوتوغرافية فالنتين مونييه عام 1975، التي حولته الى مخرج سينمائي مطارد ومنبوذ على الرغم من مرور 44عاماً على الحادثة التي اعتذر عنها، الا ان تداعياتها مازالت مستعرة، فهو غير مرحب به في المهرجانات الكبرى، على العكس من أفلامه التي تخطف الجوائز بغياب مخرجها المجلل بالعار.
ثمة سؤال يتبادر الى الذهن: ترى لماذا أعاد بولانسكي قصة درايفوس؟، أهو اسقاط لقصة ضابط أُتهم زوراً بالخيانة العظمى، لكنه حصل على براءته، بعد آلام ومكابدات وسجن في جزيرة موحشة وسط المحيط الأطلسي؟، أم هي ذات التساؤلات الفلسفية والذاتية، الباحثة عن أصل الشر وجوهره وجدوى القانون وأهميته للبشر، التي ضمنها معظم افلامه ..؟، أعتقد الاثنين معا؛ فهو من جهة سلط الضوء على هذه القصة الإشكالية في تاريخ القضاء والسياسة، والى حد ما الصحافة الفرنسية، ومن وجهة نظر الضابط بيكورات(جان دوجاردان) الذي اكتشف كم الفساد في دائرته الى حد تزوير ملفات واتهام أبرياء، تنفيذا لأوامر ضباط كبار فاسدين، مزيحا ضابط المدفعية اليهودي درايفوس(لويس كاريل) الى الظل، فعلى مدار زمن الفيلم لا نشاهد كثيرا درايفوس – وهو محور القضية- انما ما يفعله بيكورات الضابط النزيه والمهني الذي يتعرض لضغوط وإغراءات وسجن وحتى محاولة اغتيال، فضلا عن كشف علاقته المشينة بزوجة صديقه، وبعد محاولات شاقة يتوصل الى دليل براءة درايفوس، لكنه يواجه بتواطؤ المنظومة العسكرية التي تشكك بما توصل اليه وتحاول إيقافه عن المضي قدما في التحقيق، فقد صادروا ملف القضية ولفقوا له تهمة الإساءة الى سمعة الجيش الفرنسي العظيم!، ويحكم عليه بالسجن، ولأنه ضابط لا يستطيع البوح بما لديه حفاظا على شرفه العسكري، اتصل بصديق تربطه علاقة بمجموعة من المثقفين المتنورين واخبره بالحكاية، منهم: الكاتب الشهير اميل زولا، الذي كتب مقالة شهيرة هزت فرنسا بعنوان “ انا اتهم” أدان فيها الجيش والسلطة الحاكمة، زلزلت المقالة المنشورة في جريدة” لورور” الرأي العام الفرنسي، اذ خرج العشرات من المناهضين لليهود بتظاهرات عارمة واحرقت الجريدة وسجن زولا لمدة عام مع غرامة قدرها 300 فرنك، لتعاد قضية درايفوس من جديد ويخفف الحكم الى عشر سنوات، بعدها أُثيرت القضية على خلفية اعتراف أحد الضباط بارساله “الخطاطة” للسفارة الألمانية والتي يتطابق خطها بخط درايفوس، فيبرأ وتسقط الحكومة وسط فضيحة مدوية للمنظومة العسكرية.
هذه الاحداث قدمها صاحب “ الكاتب الشبح” بسرد سينمائي مشوق، على الرغم من كون احداث القصة معروفة، لكنه أطرها بتفاصيل صغيرة ومصائر شخصيات قلقة ومأزومة تابعنا تحولاتها واسرارها وقناعاتها.. فهي موزعة بين الشرف المهني والأخلاقي، والخنوع للسلطة وان تكن غاشمة.
قدم بولانسكي في خريف عمره فيلما مؤثرا متماسكا ينفتح على أكثر من تأويل، الظاهر منه مظلومية اليهود، فهذه القضية مادة دسمة للبروباغندا الصهيونية منذ مطلع القرن ومازالت، لكني لا ارجح هذا الرأي، فثمة قراءة مضمرة تخص لا وعي هذا المخرج الشقي، الذي اوقعته مغامرة صبيانية في معضلة، صادرت ماضيه ومستقبله الى الابد، فهو يطمح الى طرح هواجسه بخصوص مفهوم العدالة، والحرية، والجريمة، والخيانة، فضلا عن ثيمة الشر، التي تتكرر في أفلامه، هذه المفاهيم مازالت غامضة في ذهن المخرج، الذي مازالت طفولته المعذبة تلقي بظلالها عليه، اذ ماتت أمه وهو صغير في محارق النازية، وعاش حياة مضطربة، نجا منها باعجوبة، ربما لان لعبته الاثيرة في صناعة الأفلام، تطهر روحه المعذبة .