أجبر انتشار فيروس كورونا، أكثر من “نصف الكرة الأرضية” على المكوث في بيوتهم، متخلين عن حياتهم الواقعية بكل صخبها واحتدامها، ليجدوا أنفسهم وسط عزلة خانقة، لا تقل فتكاً في بعض اوجهها عن الوباء نفسه، هذه العزلة جعلتهم يبتكرون وسائل لتزجية الوقت وقتل الرتابة، باستحضار شكل الحياة من خلال مشاهدة الأفلام والمسلسلات عبر تعدد الشاشات وتنوعها، أليست السينما، هي حياة متجددة؟؛ فكل فيلم هو قصة مستلة من الواقع، فارتفعت أسهم منصات البث الرقمي الى مداها الأقصى وحصلت منصات على شاكلة “ نتفليكس”، و” امازون” ، و”ابل تي في”، و” ديزني”، و” منصة موبي”، فضلا عن أخرى في إيطاليا وروسيا والصين، على اكبر نسبة مشاهدة في تاريخها، على العكس من السينمات في اميركا والعالم التي أغلقت أبوابها واجلت عروضها وأوقفت شركات انتاج كبرى مشاريعها، وبدت محاولات إعادة تقاليد طقس المشاهدة السينمائية الجماعية من خلال نصب شاشات عملاقة في المجمعات السكنية وعرض أفلام كلاسيكية على الجدران، او سينما “ السيارات” التي انتشرت مؤخرا، غير مجدية لأسباب منها: ان هكذا عروض لا تناسب الوضع النفسي لجمهور مذعور من شراسة الجائحة.
هذه التخمة من الأفلام التي تبثها قنوات تلفزيونية ومنصات رقمية، جعلت المتلقي الذي أدمن مشاهدتها يبحث عن طرق لتحسين المشاهدة ومضاعفة متعته، فراح يشاهد أفلاماً ذات مواضيع يحبها، ويعمل على تحليلها وفك شفراتها واستخلاص رسائلها، مستعيناً باختيارات صناع السينما ونقادها، وتنافست مواقع ومؤسسات ثقافية على عرض أفلامها “ اون لاين” واكتظت مواقع التواصل الاجتماعي بنشر قوائم أفلام قصيرة وطويلة روائية ووثائقية، وحقق مخرجون ومنتجون ونجوم سينما حفلات مشاهدة جماعية، ولعل الحدث الأبرز في هذه التظاهرة البصرية الفريدة بالتاريخ، هي : ظهور “ كروبات “ وتجمعات مهماتها التعريف بالأفلام وتحليلها، سواء كانت كلاسيكية، او حديثة ينظمها مثقفون شغوفون بالسينما من بينهم نقاد وشعراء واعلاميون، والمبهج ان الكثير من المهتمين بالفن السابع الذين اثروا المشهد السينمائي العراقي اعادوا نشاطهم بحيوية ومثابرة وحققوا حضورا ومتابعة من الجمهور، منها: “سينما العالم” الذي يشرف عليه برصانة الشاعر والناقد هادي ياسين، وكروب سينما، و” صفحات سينما”، و”عشاق السينما الكلاسيكية”، فضلا عن صفحات ومواقع نشطت مؤخرا بتنظيم عروض خاصة وحصرية على شاكلة موقع “ افلامي” وغيرها كثير. هذا الاهتمام اللافت بالمشاهدة، أعزوه الى الطبيعة البشرية التي تميل الى سماع ومشاهدة القصص التي تشبع فضول الانسان في معرفة نفسه وما حوله، فهو لا يمل من سماع الحكايات واختلاقها، وهذا يفسر كم المرويات والبصريات التي تحيط بنا، فنحن في عزلتنا الاجبارية فقدنا حياتنا، التي أصبح حاضرها صعب المنال، وماضيها جميلا نتذكره بحنين وحسرة، وبذا يكون فعل المشاهدة استحضارا- وان كان افتراضيا- لتلك الحياة وعوالمها الرحبة، أليس السينما في واحد من تعريفاتها: “إعادة تشكيل الواقع، وليس خلقه” بمفهومية ستانلي كوبريك.