التفكير والخروج من غرفة باسكال

آراء 2020/07/08
...

علي حسن الفواز
 
التفكير بصوت عالٍ قد يكون موقفا، وقد يعمل على اختصار الطريق لتنفيذ الفكرة، لكن هذا التفكير، وبهذه الطريقة ليس مأمون النتائج دائما، لأنه قد يُسبب حرجا، او فضيحة، أو خلافا، أو قد يُثير كثيرا من الحماقات، لأنه تفكيرٌ غير محسوب النتائج، انفعالي، او له علاقة بمصالح آنية، وتلك أمور لا تجد صدى واسعا بين الذين اعتادوا الكسل، والتفكير بصوت واطئ.
التقاطع في آليات التفكير قد يكون تقاطعا في المزاج أو في الشخصية، أو في النظر الى العالم، وفي المرجعيات الايديولوجية والثقافية، لكنه يظل رهنا بالحاجة الى التعريف بطبيعة هذا التفكير، على مستوى الخروج أو التمرد على الأزمات، أو على مستوى البحث عن حلول، حتى وإن كانت ثورية، أو تلك التي تتطلب جهدا وتضحية، أو مواجهة واقتحاما. 
يقول باسكال: إن كل مشكلات العالم تبدأ حين يغادر المرء غرفته، وهو مايعني أن الحركة بأي اتجاه تفترض حدوث اصطدام بشيء ما، أو اصطناع لحدث ما، قد يكون غير محسوب، مقابل أن البقاء في غرفة باسكال الافتراضية يعني الموت بوصفٍ آخر، لأن الحياة- هنا- تعني الوجود بين الآخرين، والتفكير معهم أو من خلالهم..
من أخطر مظاهر التفكير هو الاصطدام بذلك الخارج، حيث الواقع والناس والصراعات والمصالح، وهذا مايجعل الاصطدام بالسياسة أو العقائد من أكثر مظاهر ذلك الخارج تغولا ورعبا، إذ سيكون الصوت العالي مجالا للاشتباك الحاد، أو المواجهة الحادة، والتي تعني استحقاقات من الصعب تحمّل نتائجها، أو القبول بما تفرضه من معطيات، وهذا مايجعل العلاقة بين التفكير بوصفه وعيا وتدبّرا وبين السياسة محفوفة دائما بالصراع، لاسيما في ظل ظروفٍ معقدة كالتي نعيشها، أو يعشيها العالم، حيث تُحسَب الأمور بمقاييس المصالح، وليس بالحقائق.
 
الحاجة العميقة للتفكير..
تسليم الأمور من دون تفكير، والقبول بالنوايا الحسنة سيكون نوعا من السذاجة، وممارسة لايمكن الرهان على نتائجها، لذا تكون الحاجة العميقة للتفكير مسألة لا بُدَّ منها، على مستوى تقليل الأخطار التي قد تُسببها العشوائيات، أو على مستوى تحقيق النجاح في هذا الميدان أو ذاك، ليس لأنّ الأشياء الكبيرة تحتاج الى الأفكار الكبيرة حسب، بل لأنّ التفكير وقيمة الفكر ضروريان لتنظيم الصراع والحوار وتبادل المنافع، وللتعرّف على مستويات الأخطار، فما يحدث حولنا ليس بعيدا عن محنة الأفكار، وعن اضطراب أو تشوه التفكير في التعاطي مع السياسة والعقائد والحاجات والبرامج، وعن رثاثة الممارسات التي تقوم بها جهات فاعلة في المجتمع وفي مؤسسات الحكم، إذ تتحوّل هذه الرثاثة الى قوة ضغط، أو تعويق من شأنه أنْ يُعطّل إرادة التغيير، وأنْ يغوّل مظاهر الفساد والفشل، وأنْ يُسهم في تحويل مؤسسة الحكم الى جهاز للإدارة البيروقراطية البعيدة عن الواقع واستحقاقاته، وللانتفاع من قبل هذه الجماعة او تلك.
إنّ التفكير بالتغيير هو جوهر المسألة، وهو الخيار الواقعي الذي نحتاجه اليوم، لاسيما وسط استحقاقات حقيقية لمواجهة تحديات كبرى، حيث الحاجة الى تأهيل الخطاب السياسي، وتنظيم الخطاب الاقتصادي، والارتقاء بالخطاب الاجتماعي، وبما يجعل فعل التغيير رهينا بالفهم والتفكير به، إذ لا تغيير من دون فهم أو تخطيط أو وعي بالأولويات، والتي ندرك مدى الحاجة اليها وسط التقاطع والتزاحم، والخلاف بشأن القضايا الأساسية التي تخصّ حاجاتنا ومصالحنا وقيمنا والنظر الى مستقبلنا.
الخروج من "غرفة باسكال" هو مايحتاج الى الشجاعة، والى الجرأة في المواجهة، والى تأمين القدرات التي من شأنها تجعل عملية التفكير قرينة بالفكر ذاته، حيث السعي الى البناء الرصين للخطاب، وللسياق، وللفاعلية الثقافية والسياسية والاجتماعية، والتي تملك أهلية التأثير على توصيف فعل التغيير، وتعزز قيمة الأفكار في هذا التغيير، وحتى ايجاد أطر مؤسساتية فاعلة تُسهم في تنظيم ذلك التغيير، فبقدر حاجتنا للأفكار، فإن الحاجة الى المؤسسات والى البرامج والمشاريع والسياسات الستراتيجية تظل قائمة دائما، ليس لأنهما قرينان، بل لأنهما طرفان في معادلة لها أهميتها في المجال التنموي والنهضوي والتنويري، وفي بناء مؤسسة الدولة، وفي ربط هذه الدولة بقيم الحداثة والتجديد، والعالم المتقدم، فنحن لا نعيش في فراغ، ولا في عزلة، ولم يعد المكوث في غرفة باسكال الفلسفية مجدياً وواقعياً..