زيد الحلّي
قبل انتقاله الى رحاب السماء في 13 تموز 1995 بسنتين، كان د. علي الوردي ضيفاً على اللجنة الثقافية في نقابة الصحفيين العراقيين التي كنتُ أرأسها. امتلأت القاعة التراثية في مبنى النقابة في منطقة العيواضية في رصافة بغداد بضيوف كان أكثرهم من غير الصحفيين، تباين الحضور بين اساتذة الجامعات وطلاب كليات الاجتماع ومن محبي الوردي، لم تسع كراسي القاعة لجلوس من حضر، فكان الوقوف واللهفة لسماع الوردي هي الاهم عندهم.
قدمتُ د. الوردي بما يليق من كلمات الترحيب، وحينما جئت على كلمة (رائد علم الاجتماع) رفع يديه ومسك الميكروفون قائلا: (انا باحث في الشأن الاجتماعي العراقي ولستُ رائداً فقبلي كثيرون).. ثم أكمل الحديث من دون أنْ يتيح لي فرصة التقديم، فعرج الى القول انه تأثر بالكامل بطروحات ابن خلدون (ولد في تونس 1332 توفي 1406م) وانني اعتبره منظراً حقيقياً ودارساً متمعناً للمجتمع العربي والاسلامي، فهو يمثل بطروحاته شكلاً من أشكال سوسيولوجيا المعرفة، وشخصياً وجدتُ تقارباً في رؤاه مع المجتمع العراقي، فجعلته موضوعاً لأطروحتي للدكتوراه.
بعد حوار طال عن المعتاد، انتهى وبدأ محبو الوردي التقاط الصور معه، أحسستُ انه تعب بعض الشيء، فرجوته أنْ يرتاح قليلاً في مكتبي بالنقابة، استجاب مبتسماً، جلسنا معاً، وكان معنا تلميذه الزميل سلام الشماع الذي رافقه الى النقابة، سألته: دكتور هل ما جاهرت به في كتبك: مهزلة العقل البشري، وعاظ السلاطين، خوارق اللاشعور، أسطورة الأدب الرفيع، الأحلام بين العلم والعقيدة.. تمثل رؤاك الحالية في الزمن الراهن، بعد برهة أجاب: (نعم) واضاف: ليس عيباً، ولا دليل ضعف حين يرى المرء أنَّ تغييراً مجتمعياً حصل، من دون أنْ يعترف به، بل هو دليلٌ النضج وعدم المكابرة، وقال ضاحكاً إنَّ الفيلسوف الألماني نيتشه قال مرة إنَّ "الحية التي لا تغيِّر جلدها تهلك، وكذلك البشر الذين لا يغيِّرون أفكارهم تبعاً لتغير الزمن يهلكون"، لكني أرى أنَّ تغيير الأفكار شيء وتغيير الآراء شيء آخر، وأعاد عليّ كلمته الشهيرة (الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد أنْ يبقى على آرائه العتيقة، هو كمن يريد أنْ يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد).
وإجابات الوردي، على اختزالها، تؤكد أنَّ الرأي لا يصاحب الإنسان منذ يفاعته، وحتى بلوغه السن التي تمتلئ بالتجربة والقراءات، فسعة الاطلاع هي عبارة عن تطور طبيعي لمفكر يعمّق أسئلته أو أجوبته أكثر فأكثر كلما نضج حياتياً وتقدم في العلم والمعرفة والعمر.
إن د. الوردي الذي نستذكر يوم وفاته الاثنين المقبل هو أول اسم شغل الناس في العراق، منذ خمسينيات القرن المنصرم حتى بات يشكل علامة فارقة في حياة العراقيين، من خلال كتبه وطروحاته المثيرة للجدل، وآخر اسم بهذا المقياس في الوقت نفسه، فلم يحدث أنْ ظهر بعده اسم في الرؤية المجتمعيَّة، معمقاً روح البداوة وازدواج الشخصيَّة، وبذلك أحدث تغييرًا جذريًا في مفهوم الاسم الأهم ممثلاً بالكاتب الذي استطاع أنْ يجعل القاعدة العريضة من الجماهير تتوحد معه وتجد فيه نفسها.