حرية الصمت

الصفحة الاخيرة 2020/07/11
...

حسن العاني 
 
قبل عدة سنوات في احد ايام شهر تموز أقامت منظمة حريات بلادي، امسية ظريفة على حدائق (جنة الدنيا) في الجادرية، وبحضور جماهيري متميز، تصدرته النخب السياسية والثقافية، اذ القى الدكتور عز الدين ناصر العراقي، محاضرة تحت عنوان (العراق منبع الحرية)، وتجدر الاشارة سلفاً الى ان هذه المنظمة المستقلة قامت عام 2004 بتمويل من سلطة التحالف وحظيت بمباركة حكومية، ولكنها (حاولت) الحفاظ على نهج حيادي وموضوعي في طروحاتها الفكرية.
تناول الدكتور في حديثه ابتداء، معالم الحرية العراقية عبر التاريخ القديم مروراً بالعصور اللاحقة، على الرغم من خروقات حادة لتكميم الافواه في هذه الحقبة او تلك، ولكن العراقيين كانوا ينتزعون حرياتهم بشتى الوسائل ويفرضون سلطانهم على الحياة الفكرية، ثم اشار الى الريف العراقي وكيف قدمت مضايفه ودواوينه نماذج مشرقة من اساليب الديمقراطية وحرية الكلام، حيث يشترك الحضور جميعاً في التحاور والاختلاف والاتفاق وصولاً الى قرارات موحدة تخدم العشيرة ومصالح الريف العامة، من دون ان يُمنع احد عن ابداء رؤيته او رأيه او موقفه، ومن دون أن يصادر احد حق الاخرين، او ينفرد باتخاذ القرار، وختم الدكتور محاضرته بحديث تفصيلي عن انواع الحريات التي صادرها النظام السابق، وحجبها عن المواطنين كحرية الصحافة والتعبير عن الرأي والثقافة والمعتقد والسفر وتأسيس الاحزاب والمنظمات والزواج من الاجنبيات.. الخ وكيف تغيرت الصورة تماماً، ففي ظل الحكومات المتعاقبة بصورة عامة لا يمكن الحديث عن حرية ممنوعة بدون استثناء على حد تعبيره، وقد صفق له بعض الحاضرين
بحماسة ولم يصفق بعضهم الاخر، وكان واضحاً ان الحرية قد وصلت حتى الى التصفيق، وهو ما انتبه اليه المحاضر، معبراً عن اعتزازه الكبير بالمدى الذي انجزته الحرية، 
حيث لم يصفق البعض من دون أن يتعرض الى المساءلة، وصفق البعض من دون أن يسأله احد عن سبب تصفيقه، وبينما كان يهم بالنهوض ومغادرة المنصة، استأذن رجل في السبعين من عمره مطالباً بطرح سؤال، وعندما حصل على الاذن قال (سيدي.. نحن لم نحصل على
انواع الحريات جميعها كما تفضلت، فهناك حرية ممنوعة منعاً باتاً على العراقيين، اسمها حرية الصمت، فالحكومة لا تسمح لنا بالسكوت!) وضج المكان بالضحك والسخرية، وطلب المحاضر وهو غارق في الضحك ايضاحاً لكلامه، قال الرجل السبعيني (سيدي.. أليس من حقي أن امارس حرية الصمت واتمتع بالسكوت واريح رأسي من الكلام، ولكن الحكومة ترفض منحي
هذا الحق، ولا تعترف به، فكلما اردت أن ارتاح
وألوذ بالصمت، اقدمتْ على سلوك غير صحيح او خطأ فادح لا يمكن السكوت عليه، فاضطر الى الكلام ورفع صوتي، أليست هذه مصادرة لحرية الصمت؟) وفيما غادر الدكتور المنصة منزعجاً، كان المكان يضج
بالتصفيق!!