جواد علي كسّار
من عادتي أن اصطحب معي كتاباً أثناء السفر، أملأ به أوقات الفراغ، أو أتابع موضوعاً أكتبُ فيه وأبحث عنه، لا فرق في أن يكون السفر داخل العراق أو خارجه، رغم أن ذاكرة هاتفي النقال باتت تختزن اليوم مئات الكتب، إلا أنني ما زلتُ أفضل القراءة الورقية، لأنها تتيح لي تركيزاً أكثر في الفهم وربط الأفكار، والتعليق عليها من خلال الهوامش التي أتركها على صفحات الكتاب.
في واحدة من المهام الإعلامية إلى مدينة النجف الأشرف، غفلتُ أو تماهلتُ عن حمل الكتاب، وقد صادف وصولي إلى المدينة مع وفاة العلامة الشيخ باقر شريف القرشي، فتعطلت مهمتي الإعلامية، وكان الفندق الذي أسكن فيه، قد صمّم جهاز استقبال الفضائيات على بضع قنوات فقط، ما جعلني محروماً من متعة الكتاب ومن متابعة الفضائيات معاً، ولم أكن يومها أملك الهاتف الذكي لكي أتواصل مع العالم عبر الانترنت.
لم أجد مفراً من أن أذهب إلى سوق المكتبات «الحويش» حيث أمضيتُ وقتاً رائعاً في التجوال بين المكتبات، ومتابعة ما تعرضه من كتب، وفي نيّتي أن أشتري لنفسي كتاباً، أنصرف لقراءته في أيام رحلتي تلك. وقع اختياري أخيراً على مذكرات عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002م) التي تحمل عنوان: «سيرة حياتي» وتقع في حوالي (800) صفحة بجزأين.
ارتحتُ لصاحب المكتبة خاصة بعد أن جاملني وهو يريني كتابي «فهم القرآن» الذي يعرضه للبيع، فطمعتُ بسعر معقول لمذكرات بدوي، لكن عبثاً ذهبت محاولتي معه لتخفيض الثمن، إذ أصرّ على أن أدفع (25) ألف دينار، ففعلت.
حقيقة أمضيتُ مع «سيرة حياتي» رحلة من أمتع ما تكون مع حياة عبد الرحمن بدوي. فمع أنني أعرف الرجل من خلال كتاباته وبحوثه من أيام الدراسة المتوسطة، إلا أنني لم أجد نفسي قريباً إليه، مثلما حصل وأنا استغرق بقراءة المذكرات كلمة كلمة، بتؤدة وتأنٍ وعلى مهل، وأسجّل على صفحاتها مئات الهوامش.كنت أعرف أن بدوي حاذق بمعرفة اللغات، يتقن الفرنسية والألمانية والإنكليزية والإيطالية واللاتينية والفارسية وغيرها، وله تراث ضخم في الكتابة والتأليف والترجمة والتحقيق، إذ بلغت حصيلة ما قدّمه في غضون ستة عقود أو أكثر من حياته المعرفية، ما يزيد على (150) كتاباً، رأيتُ منها العشرات، وفي مكتبتي الشخصية عدد منها.
اختار لنفسه مشروعاً معرفياً يسير في ثلاثة اتجاهات، كما يقول هو نفسه في مذكراته، الأول هو المؤلفات المبتكرة التي يعبّر بها عن مذهبه الفلسفي في الفلسفة الوجودية، والثاني هو عرض الفكر الأوروبي على القارئ العربي، والثالث هو الإسهام في دراسة الفلسفة الإسلامية. من قناعاته الفكرية، قوله نصاً: «إني رأيتُ أن معرفة الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، هي الكفيلة بإحداث نهضة في الفكر العربي الإسلامي».
يتحدّث في الجزء الأول من المذكرات عن رحلاته المبكرة إلى أوروبا، ويسجّل هناك قوله عن علاقته مع المرأة: «كان العفاف أقوى رقيب علينا، فلا نتبادل أكثر من لمسات الأيدي أو المخاصرة في المشي. وحرمنا على أنفسنا ما يتجاوز ذلك، حتى القُبَل الخفيفة، وكان يحتجزني في ذلك الوقت عفاف غريب، الباعث إليه هو تقديس المرأة والسموّ بمعنى الحب»، وقد أمضى حياته عازباً حتى وفاته.
عاش متفرداً بطباعه معتدّاً بنفسه، ضنيناً على وقته، قد أنفق عمره على المعرفة وحدها، أنجز وحده: «ما لم يستطع العشرات من المستشرقين الأوروبيين مجتمعين القيام به، ولا بعُشره» كما يقول ذلك بحق. ومع ذلك كان سهماً لحسد الحاسدين، وتنطّع المدّعين، وثرثرة الفارغين، ممن قال طه حسين في وصفهم، عبارته المشهورة: «لا يعملون، ويؤذيهم أن يعمل الناس»!