الأزمة وصناعة الخطاب السياسي

آراء 2020/07/15
...

علي حسن الفواز
 
التوجه الى صناعة منهجية للخطاب السياسي مسألة لا بُدّ منها، لأنها ستكون المدخل الواقعي نحو تنمية الصناعات الوطنية الأكثر تعقيدا، على مستوى صيانة مشروع الدولة، وعلى مستوى بناء ستراتيجيات الاقتصاد والأمن والاجتماع والتعليم والثقافة والخدمات والصحة، فضلا عن ما يخصّ مستوى التعاطي مع الصراعات الظاهرة والخفية في الداخل والخارج، 
والتي لها دور عميق في تعويق مسار تلك الصناعات، وتعطيل عمل الارادات الوطنية.. تاريخ محنة الخطاب السياسي في العراق ليست جديدة، فقد ارتبطت بطبيعة النمط السياسي الحاكم منذ عام 1963 ولغاية 2003، إذ أختزلت الدولة الى السلطة، وإذ تغوّلت الصراعات التي صنعتها أو تورطت بها السلطة، لتكون مجالا لحصر تداول قيم الحرية والديمقراطية والحقوق والتعددية وغيرها، ولفرض هوية مبتسرة للخطاب السياسي، والذي تحوّل عبرها الى قناع للحكم التوتاليتاري، واحيانا لنوع من "الخفّة" البرغماتية التي عملت على تمييع وتسطيح أية ممارسة للاختلاف وللقبول بالتعدد، مقابل ما كرسته من سلطوية متعالية للخطاب السياسي ذاته، ليبدو وكأنه بروباغندا للحاكم والسلطة والحرب والتاريخ..
وحين نتحدث اليوم عن الحاجة الى خطابٍ حر، يتجاوز عقد الماضي، فإننا نعني الحديث عن خطاب يقوم على فاعلية نقد التاريخ، والتعاطي الواقعي والعقلاني مع استحقاقات التغيير السياسي، والذي يعني بالضرورة الحاجة الى ايجاد البيئة السياسية المناسبة، والى الضرورة التي تقترن بوعي الديمقراطية كخيارات، ومواقف ومسؤوليات، على مستوى تأهيل تلك البيئة لقبول التنوع والتعدد والاختلاف، وكذلك على مستوى جعل صناعة الخطاب السياسي أكثر تمثيلا للواقعية السياسية، ولفاعلية النظر نحو أهمية الخطابات الأخرى، ومعرفة مدى قوة تأثيرها في فاعلية الأداء السياسي المؤسساتي والحزبي والاجتماعي، إذ لايمكن الحديث عن مفاهيم حديث مثل الاقتصاد الحر، والاجتماع الجديد، وعن المواطنة والحقوق والحريات، وإدارة الدولة، من دون الحديث عن العلاقة التفاعلية والتواصلية مع استحقاقات الأمن والتنمية والاستقرار، ومع ربط ذلك بضرورة العمران الاجتماعي والسياسي، بوصفه المجال الذي تنشأ فيه "المدينة السياسية" والتي تعني لنا التصور القانوني والاخلاقي والاطاري للعمل المؤسسي، مثلما تعني لنا أيضا المدينة الحديثة في خدماتها ومشاريعها ومواطنيها.
 
المدينة والقرار السياسي
من الصعب الحديث عن مفهوم المدينة والمؤسسة والقانون والعمران من دون الحديث عن القرار السياسي، فمن دون وجود ذلك القرار السياسي الذي يدرك حقيقة التغيير ويتبناه، لايوجد تأسيس ولا تنظيم واقعي لمشروع الدولة الوطنية، لا على المستوى القانوني والاخلاقي والدستوري، ولا على مستوى الفاعليات التي من شأنها تأهيل البيئة السياسية للدفاع عن الحريات والحقوق، وتقديم الضمانات التي تكفل حمايتها وصيانتها.
ما تقوم به حكومة السيد الكاظمي من إجراءات، وماتواجهه من تحديات أمنية واقتصادية وصحية، وحتى سياسية، يعكس مدى الصعوبة في تأمين أجواء مناسبة لتداول الخطاب السياسي القائم على أساس المشروعية السياسية، وعلى التفاعل مع السياقات التأسيسية لبنية الدولة، وللعمل المؤسسي، ولإشاعة التصور الحقوقي عن مفاهيم التعدد والاختلاف، إذ مازالت العشوائية قائمة، مثلما هي هيمنة لغة العنف بجوانبها الايديولوجية والامنية سائدة، والتي تحوّلت بالتراكم الى مصدر مادي ورمزي، لتعويق العمل لأية إجراءات حقيقية نحو الإصلاح الاقتصادي، ونحو إعادة تأهيل البنيات المؤسسية، ولتداولية الخطاب السياسي، وهذا مايعني وجود إرادات رافضة للتغيير من جانب، ولوجود تعقيدات هيكلية في بنية الدولة من جانب آخر، إذ تكون الحاجة الى المواجهة رهينة بإجراءات قانونية وردعية، على مستوى فرض إرادة الدولة، وهيبة مؤسساتها، او على مستوى صياغة عقد اجتماعي وسياسي وقيمي يُنظّم أسس الحقوق والواجبات، ولمواجهة التحديات التي تخصّ برامج الأمن والتنمية، والصحة والتعليم وغيرها، مقابل وضع الجمهور أمام الحقائق التي تتعلّق بطبيعة تلك التحديات، والدعوة الى المشاركة في معالجاتها، لاسيما أنّ بعضها صار (مخضرما) مثل أزمة الكهرباء وأزمة الخدمات، وأزمة الصحة، وأزمة التعليم، فضلا عن أزمات الفساد وضعف الاستثمار، ومعالجة الترهل المؤسسي، وادارة الثروة الوطنية، وتجاوز عقدة الاقتصاد الريعي..
كلّ هذا الأفق الغائم، والعُقد الضاغطة، ستظل جزءا من محنة الخطاب السياسي، فهو المسؤول عن تغوّلها، وعن بطء معالجاتها، وعن تعطيل صناعة وظيفتها الستراتيجية في دعم مشروع الدولة القوية، بوصفه المشروع الذي يملك الأهلية لمواجهتها، والتعاطي العقلاني والنقدي مع أسئلتها الكبرى.