ثمن القوة في تأسيسها لعلاقات الهيمنة

آراء 2020/07/18
...

حكمت البخاتي
تشكل القوة الشرط المطلوب في البقاء وقد تحول ذلك الشرط الى مقولة أولية في الذهن البشري، ثم تكرست مقولة ثقافية في العرف الاجتماعي، ثم تطورت الى مبدأ في السياسية بعد قيام الدولة في التاريخ البشري، وأخيرا شهدت تحولها نحو آيديولوجيا تكرس أو كرست الهيمنة في العلاقات الدولية، تلك العلاقات التي تتشكل بداياتها التنظيمية في حقبة الاستعمار في العصر الحديث،
 وقد تزامنت تطورات مفهوم القوة بمضمونه الايديولوجي في تلك الحقبة مع الكشف العلمي في نظرية التطور والارتقاء، فقد برر دارون علميا ظاهرة استيطان الأراضي في عصره وغلبة المستوطنين في تلك الأراضي الجديدة على حساب السكان الأصليين بأنها تحدث وفق قانون الانتخاب الطبيعي - أصل الأنواع، ترجمة اسماعيل مظهر، ص758- مما أعطى مفهوم الغلبة أو الاستعمار الذي يشترط القوة بعدا علميا وتفسيرا طبيعيا كان يمهد لتطورات الداروينية الاجتماعية وعقيدتها في الثروة والقوة ورغم ادعاءات الكثير من الباحثين انتهاء عصر الداروينية الاجتماعية والنبذ العلمي والاجتماعي لها في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلا أن الواقع السياسي والاجتماعي للامبريالية يؤكد سلوكها العملي واستمرارها بشكل عملي في استناد الامبريالية الأميركية إليها في توسعات مفهوم القوة لديها وتطبيقاتها السياسية لها التي تنتج دائما أحادية القرار الذي زاد من سعة دوره وتأثيراته أحادية النظام 
القطبي.
كما أدى هيمنة منطق القوة على الرؤية الأمبريالية الى تغييب أفكار الصراع التي كان يركز عليها ماركس في تحليلات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يفسر موقف الامبريالية الدائم من الماركسية، فالصراع يقمع بالقوة من وجهة نظر الامبريالية لكن الصراع يقود عملية التطور بشكل حتمي من وجهة نظر ماركس وهو محل مقاربته مع دارون الذي يرى التنافس أحد القوانين المسيرة لعملية التطور والانتخاب الطبيعي لكن لا يعني هذا تفسير كل الصراعات بالصيغة الماركسية المعهودة بقدر تأشير دور الصراعات في تحليل وتشكيل 
التاريخ.
لكن إدارة ترامب عمدت الى حذف فكرة الصراعات ودورها في تحليل وتشكيل التاريخ الحديث، ولم يكن لها وجود في قاموسها السياسي والثقافي وهو ما أوهمها بصفقة 
القرن.
لقد عاد مبدأ القوة مبدأ مؤسسا في العلاقات الدولية في إدارة ترامب وانتقال الولايات المتحدة في حكمه من سياسات القوة الناعمة الى القوة المباشرة بواسطة فرض سياساته الاقتصادية والتجارية على العالم وقد طالت تلك القوة المباشرة حتى المؤسسات الدولية ومنها 
الانسانية.
وفي معرض تصحيحاته في السياسة الامبريالية كان الدبلوماسي الأميركي "كسنجر" يحذر من تمادي سياسة القوة وتغليبها على فكرة مناقشة الصراعات، فقد تحدث عن ضرورة منح الدول التي تدخل أو دخلت في صراعات سياسية واقتصادية مع الولايات المتحدة فرصة الدخول الى عالم التنافس والتفاهم من أجل إدارة الصراعات بما ينسجم مع مصالح الولايات المتحدة فهو يقول: "يمكن أن تتجاوز العلاقات مع الخصوم السابقين تصفية آثار الحرب الباردة وإيجاد دور جديد لروسيا... وللصين أثناء تحولها الى قوة عظمى، كما أن الهند أخذت تبرز كلاعب دولي مهم، واستئناف عملية السلام في الشرق الأوسط على عجل" - نحو دبلوماسية للقرن الواحد والعشرين، هنري كسنجر، ترجمة عمر الأيوبي، ص327-. 
واذا كانت آراء كسنجر تمثل خلاصة تجربته السياسية وهو يضع توصياته للإدارات الأميركية في مفتتح القرن الواحد والعشرين، إلا أننا نشهد في سياسات ترامب والادارة الأميركية في عهده ميلا واضحا نحو فرض السياسات والغايات الأميركية على الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الأحداث والصراعات الدولية مما يدع العالم مشحونا بشكل دائم بالتوترات السياسية الأمنية وذلك هو ثمن القوة في تأسيسها لعلاقات الهيمنة في شبكة العلاقات
 الدولية.
ولم تكن الرؤية الثقافية والدبلوماسية الأميركية بمنأى عن معرفة مصير وثمن سياسات القوة والفرض السياسي فقد كتب الخبير الأميركي في قضايا الشرق الأوسط "جيف سيمونز" عن مخاطر القوة في كتابه عراق المستقبل الذي صدرت الطبعة الأولى منه في العام 2004م أي بعد الغزو الأميركي للعراق بعام واحد وهو يذكر بكلمات في التراث السياسي البريطاني (من خصائص القوة أن تفسد والقوة المطلقة تفسد إفسادا مطلقا)، ويعيد مقولة أخرى في هذا التراث (إن القوة غير المحدودة من شأنها أن تفسد عقول الذين يملكونها).
لقد توقع الكاتب سيمونز كل نتائج غزو العراق استنادا الى إيمانه بفساد القوة وفساد العقل الذي يتحرك بموجبها في تأسيسات الهيمنة يقول سيمونز: (إن محرك الطموح الأميركي هو القوة الديناميكية للشركات التي تدعمها آلة عسكرية... وتكمن في هذه الحقيقة الأدلة على مستقبل العراق الدولة التي يراد لها أن تكون محكومة الى الأبد من دون خدمات اجتماعية ملائمة، وفي ظل اختلالات مالية وضحية للاستغلال الأجنبي) -عراق المستقبل، ترجمة سعيد العظم، ص30 –.