حسن العاني
في مرحلة الدراسة الإعدادية التي تعود إلى قرابة ستين سنة مضت تعرفت على السيد رافع اسعد وقدر لهذا التعارف أن يتحول إلى واحدة من أوطد الصداقات التي لا تزال أواصرها قائمة، وقد لفت انتباهي منذ وقت مبكر ، مايتمتع به هذا الصديق من ذكاء حاد وقابلية على الحفظ وذاكرة قوية ، حيث كان على الدوام من الطلبة المتفوقين، وله القدرة على أن يقرأ أي كتاب مرة واحدة لترسخ المعلومات في ذهنه ، فإذا سألته عن أي اسم أو تاريخ أو حادثة بعد عشرين سنة أو ثلاثين، يرد عليك بطلاقة، وكأنه فرغ من قراءة الكتاب قبل ساعة أو ساعتين، ولهذا كان الأصدقاء جميعهم، يرجعون اليه كلما اشكلت عليهم نسبة قصيدة إلى ناظمها، أو صواب بيت شعري أو احداث رواية أو بطل قصة أو قضية في النحو أو الصرف أو البلاغة، الى غير ذلك من كتب التراث أو الثقافة المعاصرة! على أن الرجل جمع إلى جانب هذه الخصلة، شيئاً عظيماً من الظرف والمرح وروح الدعابة، ولا تكاد صغيرة تمر به أو كبيرة، الا وعلق عليها تعليقاً ساخراً يثير من حوله جواً صاخباً من الضحك، وكان في أحيان كثيرة، لا يجد غضاضة في التعليق على نفسه قبل غيره! لعلني محظوظ الى ابعد الحدود يوم تعرفت على رافع الذي لم يكتف بالذكاء والمرح وقابلية الحفظ وسرعة البديهة، وانما بالغرابة كذلك، فقد كان بين الحين والحين الآخر، يدعوني إلى بيته كي اخلصه من الكتب التي انتهى من قراءتها ولا يحتاج إلى بقائها في مكتبته من دون فائدة على حد تعبيره ، ولعل العقد الفريد والأغاني والرسالة القشيرية ورسائل ابن حزم ودروب الحرية والمسيح يصلب من جديد وتاريخ المانيا الهتلرية وعشرة ايام هزت العالم ودواوين المتنبي والجواهري والسياب والنواب، هي بعض ما (تخلص) منه وانتقل إلى مكتبتي!!
رافع اسعد، كائن غريب حقاً، وفلسفة غريبة في الحياة، فهو وحده من كان قادراً على جمع البومات صوره الشخصية من عهد الطفولة إلى ما بعد نيله شهادة الدكتوراه و... وحرقها بدم بارد، لانها تثير لديه ذكريات حزينة، وهو لا يريد الاحتفاظ بصور تنغص عليه حاضره واستقراره النفسي، وحده الذي لم ينسَ طبيعة شخصيته المرحة عندما جلس امام أساتذته، وهم يناقشون رسالته التي تقدم بها لنيل شهادة الماجستير، فقد ابهرهم بردودهِ المقنعة وطلاقته في الكلام وامكانياته على استذكار المراجع والمصادر والعبارات والجمل بدقة أذهلت الأساتذة والحضور على حد سواء، وقد قال له آخر الأساتذة ما معناه (ليس عندي ما أضيفه من ملاحظات ايجابية سبقني اليها زملائي، الحق انا سعيد جداً بهذا الجهد العلمي، ولكنني وقفت على الصفحة رقم كذا ورأيت أنها حشرت على الرسالة ولو تم الاستغناء عنها لن يحدث أي خلل)، ورد عليه رافع (أشكر أستاذي الفاضل على ثنائه، وإذا كانت رسالتي كلها جيدة فارجو أن تسمح لي بتمزيق هذه الصفحة، ورفعها من الرسالة نهائياً لكي أريحك منها وأريح نفسي)، ولم تستطع لجنة المناقشة منع نفسها من الضحك و.. ومنحه درجة الامتياز!!