العيد وفراق الأحبة..!

الصفحة الاخيرة 2020/08/07
...


زيد الحلّي
 
في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، لبى نداء ربه أبي الى مثواه الأخير بعد عمرٍ قضاه في الكد والتعب لتوفير العيش الكريم لأسرة قوامها 12 فرداً، أربع بنات وثمانية أولاد عدا والدتي، لحقته بعد مدة وجيزة والدتي الى دار البقاء، وبوفاتيهما غلق البيت الكبير أبوابه وتفرق الأولاد الذين أصبحوا شباباً واختار كلٌ منهم بيتاً مستقلاً، والبنات أصبحن أمهاتاً.
لم يكن البيت الكبير سقفاً وبناءً، بل كان مرتعاً لوهج الطفولة والشباب، وأماً رؤوما لنا، لا سيما في المناسبات، حيث التجمع واللهو والألفة، وكان لعيدي "الفطر والأضحى" خصوصيَّة ننتظرها جميعاً، وأظن أنَّ هذه الحالة تشترك فيها جميع البيوتات العراقيَّة.
وبفقد أبي انتقلت طقوس البيت الكبير الى بيتي باعتباري الابن البكر للأسرة، وباتت أسرتي الصغيرة تنتظر قدوم "الفطر والأضحى" على أحر من الجمر وبشوقٍ عارمٍ على مدى السنوات الأربعين المنصرمة، وكم كنتُ أفرح حين أشهد تزايداً في أعداد المواليد أو في زواج الأحفاد أو تخرجهم في الجامعات.
مرَّ عيد الفطر الماضي، بما يشبه السبات في تقاليد الأسرة، إذ اعتذر البعض مكتفياً بالتهنئة عبر الهاتف الجوال، والبعض الآخر جاء على عجالة ملبياً لطقوس اعتاد عليها، كان ذلك في الأسابيع الأولى لظهور "كورونا"، ومضت الأيام وحلَّ عيد الأضحى المبارك الذي ودعناه الاثنين الماضي، لم أسمع طرقاً على الباب أو رنة جرس البيت، لكني سمعت رنات الهاتف الجوال بين لحظة وأخرى منذ صباح أول أيام العيد، المتصلون كانوا أبنائي من أماكن غربتهم، واخوتي وأبناءهم وأحفادهم، وأخواتي وأبناءهن وأحفادهن، والأقارب والأصدقاء، وما أنْ أزفَ منتصف النهار حتى وجدتُ نفسي حبيس وحدتي، فالجميع التزموا بيوتهم، فكورونا لا تهاب أحداً وهي فوق الأعراف والتقاليد!
أفقدني الفيروس اللعين لذة سعادتي بمشاهدة إخوتي وأخواتي وأسرهم، حيث كلام الذكريات والممازحات واللهو، ولكن، وأنا في وحشة الابتعاد عن الجو الذي اعتدتُ عليه، تذكرتُ قولاً لـ"بوذا" في العام 500 قبل الميلاد: "لا يوجد طريق نحو السعادة لأنَّ السعادة هي طريق بحد ذاتها".. وقولاً للفيلسوف اليوناني سقراط في العام 450 قبل الميلاد: "سر السعادة يكمنُ ليس في الرغبة بالمزيد دائماً، بل في تعويد النفس على الرضا بما هو موجود ولو كان قليلاً".
لكنْ هل يمكن للمرء الذي اعتاد على نمطٍ معينٍ من الحياة أنْ يغطي مشاعره بلوحٍ من النسيان؟ شخصياً أقول (لا) حيث وجدتُ غمامة سوداء تلف أحاسيسي بعدما غاب عني من أحب.
أدركُ أنَّ إطلاق العنان للعقل يمكن أنْ يؤدي إلى حلولٍ إبداعيَّة في مثل حالتي، فاتخذت من التأمل والتفكير والذكريات والعواطف طريقاً الى العقل الباطن، فانثالت عليّ صور الأفراح والأحزان والضحكات والزعل والمشاكسات، وأحاديث النجاح والإخفاق والعتاب، لكنَّ ذلك لم يشبع جوانحي وذاتي، فوجود الأهل هو سعادة السعادات..!
لعن الله "كورونا"، متى يعود الألق لأعيادنا حيث كانت جزلى نستقبلها بحبور وسعادة.
وحشتوني يا نسغ الروح!