جواد علي كسّار
قبل عشرة أيام من الآن انشغلت الساحة العراقية بوداع أحد الكبار؛ الشيخ محمد باقر الناصري، فقد لاحظنا اهتماماً مميّزاً بهذه الشخصية، من خلال بيانات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وعدد كبير من رجال السياسة ورموزها في بلدنا، مضافاً إلى المرجعية الدينية في النجف الأشرف.
لقد أخذ الناصري مهمّة رجل الدين إلى المجال الاجتماعي والوطني، وقد فعل ذلك شخصياً خلال ما يقرب من سبعة عقود من حياته أمضاها في العمل الاجتماعي، وفي النشاط السياسي، ترك فيها آثاراً عميقة بملفات مهمّة، في طليعتها إرساء الوطنية العراقية، والإصرار على استقلال المشروع الوطني العراقي، لاسيّما في المهاجر التي عاش فيها داخل إيران والشام وأوروبا، حين كانت قوى المعارضة العراقية في الخارج تواجه غالباً، ضغوطات على استقلال قرارها من أجهزة الدول المضيّفة.
يشهد سجّل حياته مواقف رفيعة دفاعاً عن الوطنية العراقية، وقد كان أشدّ المتحمّسين اندفاعاً في التعامل الميداني المباشر مع الانتفاضة الشعبانية 1411هـ (آذار 1991م) ومن أوائل العائدين إلى البلد بعد التغيير، مكث فيه أحياناً في النجف الأشرف، وغالباً في الناصرية حتى وفاته.
التقيتُ به بعد السقوط في النجف الأشرف، ففاضت نفسه بذكريات نفيسة، عن حاضرة النجف الأشرف تحديداً عن السيد محمد باقر الصدر، وعن الناصرية وتأريخها ورموزها وكبارها، وعن ملفات المعارضة، ثمّ زفر زفرةً وقال متأوهاً في كناية عميقة عن قرب الأجل: هل آخذ أسرار هذه الملفات معي إلى القبر؟ أجبته من فوري دون تردّد: بل سأقدِم عليك في الناصرية لتسجيل هذه الذكريات، وهذا ما كان.
لقد أمضيتُ معه في رحلة الناصرية تلك عشرة أيام كاملة، عملتُ فيها ليلاً ونهاراً، مارستُ خلالها عملية تفريغ واسعة لذاكرته، وما كانت تختزن على مدار نصف قرن. ثمّ تكرّرت محطات اللقاء وجولاته مع الناصري في النجف الأشرف. وكانت الثمرة الأولى، أربع ساعات تلفازية من الذكريات عبر برنامج «حصاد العمر»، وفيلم وثائقي من جزأين، وحلقة برنامج «حوار مع مؤلف» عن تفسيره القرآني المقارن. وقد لا أبالغ ان الحصيلة تفي بمادّة كتاب ضخم، يتخطى الخمسمئة صفحة.
بديهي لم أكن وحدي من حاوره، فقد التقت به فضائيات عديدة ووسائل إعلام كثيرة، ساعد في ذلك نبله وأخلاقيته الرفيعة وسعة صدره، والمودّة التي ينفقها بكرم للإعلاميين ورجال الفكر والثقافة.
سأكتفي بهذا القدر اليسير لأنتقل من الشخص إلى المشروع، ومن المناسبة إلى إطارها. المشروع هو باختصار المبادرة إلى إطلاق «موسوعة وطنية» عامة وشاملة لرجال العراق وشخصياته في الفكر والسياسة والاجتماع، تغطي رموز البلد خلال المئة سنة الأخيرة.
أعرف تماماً أن هناك أعمالاً موسوعية مهمّة على هذا الصعيد، كالجهود الكبيرة التي بذلها الراحل حميد المطبعي في «أعلام وعلماء العراق» بأجزائه الثلاثة، وموسوعة الراحل جودت القزويني بمجلداتها الثلاثين، و«موسوعة السياسة العراقية»، وبعض الأعمال الرجالية لحميد مجيد هدو، مضافاً إلى موسوعة زميلنا المغيّب توفيق التميمي، الموسومة «أعلام عراقيون».
الفارق بين هذه الجهود المحترمة والموسوعة المقترحة، أن هذه مبادرات فردية، والموسوعة المنشودة عمل وطني شامل وجامع، يستوعب هذه المبادرات جميعاً ويضمّ إليه أرشيف الفضائيات والجهود الفردية، يمكن أن تتبناه وزارة الثقافة أو أي مؤسّسة أخرى مختصة من مؤسّسات الدولة.